إذا أردت أن تعرف حقيقة آراء المفكرين والمثقفين والنخب فعليك أن تنتظر أول فاصل إعلانى ، فى هذا الفاصل الذى يستغرق دقائق معدودة، يمكنك أن تعرف الحقيقة دون أدوات تجميل تقف على أرض الواقع دون تحليق فى سماوات الوهم والكلام المنمق، ترى الصورة دون تزييف أو مبالغات، فى هذه الدقائق قد تجد أشد المعارضين على حقيقته وبعيدا عن ضغوط الدوائر الضيقة الحاكمة والمتحكمة فيه تجده مؤيدا ومتفهما كل القرارات التى يهاجمها ويلعن تفاصيلها على الهواء.
>>>
وقد تجد العكس تماما حيث يصيبك الجنون من هذه الشخصيات التى تراها تدافع وتؤيد سياسات بعينها وبعنف على الهواء وفى الفاصل تجد مصدوما الرأى الحقيقى يخرج مغلفا بورق السلوفان الخجول ذى الألوان الفوشيا! فى الفواصل الإعلانية تجد أمام عينك الحقيقة وكأنها «زواج سرى لا يجب أن يعرفه أحد» ، فى الفاصل هناك نصف الحقيقة الغائب والمجتمع المصرى يحتاج فى تقديرى إلى فاصل طويل نسمع فيه الحقائق فقط ونتداول خلاله المعلومات فقط ولا مكان هنا للشائعات ويقول كل منا رأيه دون أى اعتبارات إلا احترام الحقيقة.
>>>
فى الفاصل لا أحد يضحك على نفسه بمعسول التصورات ولا أحد ينظر فى المرآة ليرى نفسه أسدا وهو فى الحقيقة هِرة وما يحدث فى الفاصل الإعلانى أمر يستحق الانتباه فى الوقت الذى ندعو الناس لاستهلاك سلعة ما خلال فقرة الإعلانات نحتكر نحن الحقيقة أو بعضا منها لانفسنا ولا نسمح بتداولها للناس ظنا منا أننا – كذبا – نخبة والعياذ بالله هذه الصورة التى لا يعرف تفاصيلها إلا القليلون من ممارسى المهنة قد نتفق أو نختلف بين التأييد أو التنديد.
>>>
إلا أننى أردت أن أستدعيها – بصرف النظر عن الاتفاق أو الاختلاف حول صحتها – وأنا أنظر إلى المجتمع المصرى ومعظم المجتمعات العربية، فالصورة التى يبدو عليها معظمنا أمام الآخرين تختلف عن الحقيقة التى نحن عليها امام انفسنا، ربما هناك محددات لما يقال وفى أى سياق يقال وهذا مفهوم ، لكن الملاحظ أن هذا السلوك أو هذه الثقافة الراسخة تركت آثارها على طريقة التفكير ذاتها وأحدثت شرخا فى المصداقية الذاتية ، وهنا لا أنظر إلى أية تفاصيل ولا أستهدف أى فئة أو أى سياق معاذ الله ، هنا أنظر باحثا إلى قناعاتنا الحقيقية فى الأمور الاستراتيجية المفصلية المهمة على الصيد الجمعى للأمة.
>>>
حيث أرى تأثير ثقافة الازدواجية والنفاق الثقافى ومحاولة إرضاء الآخرين تأثير شديد السلبية على الأفكار والعناوين الكبرى التى لا تحتمل إلا استدعاء الحقائق مجردة، فالمجتمعات العربية تطرح اطروحات محددة دون خطط واضحة وتتناولها بعشوائية مستخدمة كل أدوات الازدواجية اللعينة والكبرياء المزيف فى كثير من الأحيان أكتب هذا وألمح مصرحا دون خجل عن عوار مجتمعى ملتصق بمعظم الشعوب العربية ، فنحن نرى فى أنفسنا أننا سادة العالم – لا أدرى لماذا ؟ – وفى نفس الوقت واللحظة لا نثق فى أنفسنا اننا قادرون على إدارة أمورنا دون الاتكاء على بقايا القوى الإمبريالية.
>>>
نرى أننا فى بحبوحة من أمرنا وعلينا اختيار أعدائنا أو أصدقائنا من بين متعددين يقفون صفا أمامنا ، والحقيقة ان أعداءنا قد اختارونا قبل أن نختارهم وباتت كل أسئلتنا إجبارية ولا تحتمل الصواب والخطأ، أنفقنا جل وقتنا فى خلافات عقيمة وعميقة فى السطحية حول السؤال الغبي: «من هو عدو العرب الأول ؟» فقال بعضنا إسرائيل وصهيونيتها هى الخطر الأكبر ، بينما قال آخرون إنها إيران ومشروعها النووى ومدها الشيعى هو العدو الخفى الأخطر ، بينما وقف فريق ثالث – وأنا منهم – يقولون إن الاخوان أخطر من الصهيونية والصفوية لأنهم يعملون لصالح الصهيونية والصفوية فى نفس الوقت.
>>>
بينما وقف فريق من العقلاء – أتمنى أن أكون منهم – ليقول بوضوح «إن عدونا الأول هو التخلف»، فالتخلف هو عكس التقدم بمعناه الواسع جدا والشامل جدا جدا ، نحن فى حاجة إلى مصارحة أنفسنا بما نخفيه خلف أصابعنا ونظن ان أحدا لا يراه سوانا ، لذلك أرى اننا جميعا فى حاجة إلى فاصل غير إعلانى نذكر فيه الحقيقة ونواجه أنفسنا بسوءاتنا ونواقصنا على ألا نعود مجددا لممارسة رذيلة الازدواجية والضحك على أنفسنا.