لقد دأبت مصر على مدار الفترة الماضية، وبشكل متواصل وحثيث، على إطلاق التحذيرات تلو الأخرى من مغبة تحويل المنطقة إلى ساحة حرب شاملة، مؤكدة على أن التصعيد سيقود إلى عواقب وخيمة لا تحمد عقباها، وستطال تداعياته الجميع بلا استثناء. هذه التحذيرات لم تكن مجرد بيانات دبلوماسية روتينية، بل كانت تنبع من قراءة عميقة للواقع الإقليمى المتشابك، وفهم دقيق لديناميكيات الصراع، وتجربة تاريخية طويلة لمصر فى التعامل مع الأزمات التى عصفت بالشرق الأوسط. لقد حذرت القاهرة مرارًا وتكرارًا من أن أى تصعيد غير محسوب، أو أى هجوم متهور، من شأنه أن يشعل فتيل أزمة إقليمية كبري، لا يمكن التنبؤ بمسارها أو التحكم فى نتائجها. هذه التحذيرات كانت ترتكز على إدراك مصرى راسخ بأن المنطقة لم تعد تحتمل المزيد من الاضطرابات، وأن شعوبها قد عانت بما يكفى من ويلات الحروب والصراعات التى استنزفت مواردها وأعاقت تقدمها. كانت مصر ترى بوضوح أن أى شرارة، مهما بدت صغيرة، يمكن أن تشعل حريقًا هائلاً يلتهم كل ما فى طريقه، وأن الخاسر الأكبر فى هذه المعادلة سيكون دائمًا هو المدنيون الأبرياء الذين يدفعون الثمن.
لم تكن تحذيرات مصر مجرد أقوال، بل اقترنت بتحركات دبلوماسية مكثفة على كافة الأصعدة الإقليمية والدولية. لقد سعت القاهرة بشتى الطرق إلى تهدئة النفوس، وتخفيف حدة التوترات، والدفع نحو حلول سلمية للقضايا العالقة. استقبلت الوفود، وأجرت الاتصالات، وشاركت فى المؤتمرات، كل ذلك بهدف رأب الصدع وتجنيب المنطقة مخاطر الانزلاق إلى الهاوية. لقد أكدت مصر فى كل مناسبة على ضرورة الالتزام بالقانون الدولي، واحترام سيادة الدول، ونبذ التدخلات الخارجية التى تزيد من تعقيد المشهد. كانت رسالتها واضحة: الحل يكمن فى الحوار والتفاوض، وليس فى لغة القوة والعنف. لقد أدركت القيادة المصرية المتمثلة فى الرئيس السيسى أن أى تصعيد عسكرى فى أى بقعة من الإقليم، سيلقى بظلاله على الأمن القومى المصرى بشكل مباشر أو غير مباشر، وذلك بالنظر إلى الترابط الوثيق بين أمن مصر واستقرار محيطها الإقليمي. من هنا جاءت جهودها الدءوبة للحيلولة دون تفاقم الأوضاع، وتوجيه الأنظار نحو ضرورة إعطاء الأولوية للجهود الدبلوماسية والسياسية.
وما حدث مؤخرًا من اعتداء إسرائيلى على إيران، وما تبعه من ردود أفعال، ليؤكد بما لا يدع مجالاً للشك، صحة التحذيرات المصرية المتكررة. لقد جاء هذا التصعيد ليضع المنطقة على شفا الهاوية، ويهدد بإدخالها فى دائرة مفرغة من العنف والانتقام، إن ما شهده الإقليم من تصعيد فى الأيام الأخيرة، من شأنه أن ينسف أى جهود تبذل لتحقيق الاستقرار، ويغذى حالة عدم اليقين التى تعيشها المنطقة منذ عقود. لقد أثبتت الأحداث أن الصبر الدبلوماسى والنفس الهادئ، الذى لطالما دعيت إليه مصر، هو السبيل الوحيد لتجنب الكوارث. لقد كانت مصر، وما زالت، تؤمن بأن التصعيد العسكرى لن يؤدى إلا إلى مزيد من الدمار والخراب، وأن الحلول العسكرية لا يمكن أن تكون بديلاً عن الحلول السياسية والدبلوماسية.
إن تداعيات هذا التصعيد لا تقتصر على الدول المتورطة فيه بشكل مباشر، بل تمتد لتشمل المنطقة بأسرها، بل والعالم أجمع. فالاقتصاد العالمي، الذى ما زال يتعافى من تبعات الأزمات المتتالية، سيتأثر سلبًا بأى اضطراب فى أسعار الطاقة، أو تعطيل لحركة التجارة العالمية. كما أن الأمن الإقليمي، الذى كان هشًا فى الأساس، سيواجه تحديات غير مسبوقة، إن ما حدث مؤخرًا هو بمثابة جرس إنذار أخير، يدعو المجتمع الدولى إلى تحمل مسئولياته، والضغط على كافة الأطراف لوقف التصعيد.
مصر ستظل ترفع صوتها عاليًا، مطالبة بالسلام والاستقرار، ومؤكدة على أن الأمن الإقليمى مسئولية جماعية، تتطلب حكمة وبعد نظر من جميع الأطراف.