خمسون عاماً هى عمر مسيرته الفنية.. اشتهر خلالها بأدائه السهل الممتنع والبسيط.. أبهر الجميع بإتقانه الشخصية التى يؤديها بكل تفاصيلها.. مجسداً كل ملامحها.. فاستحق منهم لقب «العملاق».. شخصيته القوية جعلت كل من تعامل معه يكن له كل الاحترام والتقدير.. هو الفنان «محمود مرسي» الذى تحل ذكرى وفاته وتحرص «الجمهورية» على الاحتفاء بذكراه اليوم فى السطور القادمة. فقد مر 20 عاماً على رحيله بعد وفاته أثناء تصوير مسلسل «وهج الصيف» إثر أزمة قلبية.. ورحل عن عالمنا فى 24 إبريل عام 2004 تاركاً وراءه إرثاً فنياً كبيراً قوامه 99 عملاً ما بين أفلام سينمائية ومسلسلات إذاعية وتليفزيونية ومسرحية. كرمته الدولة بجائزة الدولة التقديرية عام 2000 تتويجاً لمشواره الفنى الطويل .. كما تم تكريمه من عدة مهرجانات قارية ودولية منها مهرجان القاهرة السينمائي.. اشتهر بين جمهوره بـ»عتريس السينما المصرية» بعد أدائه المبهر فى فيلم «شيء من الخوف».. ولم تنحصر موهبته الفنية فى التمثيل بل كانت له تجارب فى الاخراج المسرحى والتليفزيوني.. وطوال حياته كان رجل مبادئ وصاحب مواقف وطنية مهمة .. حيث استقال أثناء عمله مذيعا باذاعة «بى بى سي».. رافضا قراءة النشرة الاخبارية التى تتضمن هجوما على مصر..وكانت الفنانة سميحة أيوب هى السيدة الوحيدة التى تمكنت أن تخرجه من صومعته الخاصة وعزوفه عن النساء والزواج.. إلى التفاصيل:
الفنان الكبير الراحل محمود مرسى أحد أيقونات التمثيل فى مصر.. والمفارقة أن الفنان محمود مرسى لم يبدأ التمثيل وهو فى بداية حياته كشاب فى مقتبل عمره، بل إنه خاض تجربة التمثيل متأخراً فى سنوات حياته، وهو على مشارف الأربعين من عمره، حيث لم يكن التمثيل هو مقصده، ولكن عندما خطا خطوته الأولى من خلال فيلم « أنا الهارب» عام 1962 للمخرج الكبير نيازى مصطفى نال اعجاب الجميع من مخرجين ومنتجين وفنانين وفنانات الذين أيقنوا أنهم أمام أسطورة لا يمكن تركها لمحض الصدفة، وكان أول أجر له كممثل فى ذلك الفيلم 300 جنيه.
لذا ففى العام التالى عام 1963 شارك محمود مرسى فى بطولة ثلاثة أفلام دفعة واحدة منها فيلمان لسيدة الشاشة الفنانة فاتن حمامة وهما: فيلم «الليلة الأخيرة»، وفيلم «الباب المفتوح» «والذى نالت عنه فاتن حمامة جائزة أحسن ممثلة من مهرجان جاكرتا السينمائي، ونال الفيلم أيضاً جائزة أحسن فيلم فى المهرجان، وهو أحد الأفلام الثلاثة التى شارك فيها لاعب كرة القدم الكابتن صالح سليم، أما الفيلم الثالث فى ذلك العام فكان فيلم « المتمردة « مع الفنانة صباح وأحمد مظهر، شهدت فترة الستينيات انطلاقه محمود مرسى بعدة أفلام ناجحة تألق فيها منها: أمير الدهاء– فارس بنى حمدان– الخائنة– الليالى الطويلة– السمان والخريف.
(عتريس شادية)
تميز محمود مرسى بأدائه المميز ، كما لم يعتمد فى أدائه على الصوت العالى الجهورى فأتقن كل أدواره، واشتهر فى بداياته بأداء الأدوار الشريرة كما فى فيلم « الليلة الأخيرة « وفيلم « شئ من الخوف « ويعد دوره فى هذا الفيلم من أكثر أعماله شهرة عندما لعب دور (عتريس) أمام الفنانة شادية، وهو الفيلم الذى اعترضت عليه الرقابة باعتبار أن شخصية « عتريس « الظالمة تشير إلى الرئيس جمال عبدالناصر، ولكن مع الاعتراضات من القائمين على الفيلم طلب عبدالناصر أن يشاهده بنفسه وأمر بإجازته وعرضه بدور العرض السينمائي، ومن أبرز الأفلام التى قدمها محمود مرسى خلال مشواره «فجر الإسلام»، «أغنية على الممر»، «امرأة عاشقة»، «أبناء الصمت»، «طائر الليل الحزين»، «سعد اليتيم»، « وغيرها، أما فى الدراما التليفزيونية فقد كان له حضور كبير ومن أهم مسلسلاته البارزة: «إنى راحلة»، «رحلة السيد أبو العلا البشري»،»بين القصرين»، «قصر الشوق»، «العائلة».
كما دخل الفنان محمود مرسى قائمة الشرف فى أن تكون له 6 أفلام فى قائمة أفضل 100 فيلم فى تاريخ السينما المصرية حسب إستفتاء النقاد عام 1996 وهى أفلام: السمان والخريف 1967، شيء من الخوف 1969، زوجتى والكلب 1971، أغنية على الممر 1972، ليل وقضبان 1973، أبناء الصمت 1974.
(طفولة قاسية)
لم تكن طفولة الفنان محمود محمد حسين مرسي، الشهير بمحمود مرسى وردية لكنها كانت صعبة وقاسية.. ولد فى 7 يونيو عام 1923 بمدينة الإسكندرية، لأب يحمل لقب البكوية، ويعمل فى المحاماة، وكان نقيباً لمحامى الإسكندرية، وعضو مجلس الشيوخ، وعاشقاً للفن، لذا كان يعقد صالوناً ثقافياً كل اسبوع بمنزله، يحرص خلاله أن يجمع فيه صفوة القوم والبلد وأيضاً نجوم الفن فى ذلك الزمن، ولكن لم تكن حياة الطفل محمود مرسى وردية.
لم يعش حياة طبيعية مع والديه، إذ كان له 9 أشقاء، بينهم 6 إخوة من الأب، وثلاثة من الأم أنجبتهم من زوج اخر بعد طلاقها من أبيه، وكان الطفل يعيش مع أمه، وعندما وصل للمرحلة الدراسية رغب الأب أن يحتضنه مع أبنائه الستة من زوجته الأولي، إلا أن زوجته رفضت ذلك الأمر ودفعت زوجها بأن يضع ابنه– من زوجته الأخرى السابقة – فى مدرسة داخلية، لا يخرج منها إلا فى المناسبات أو أجازات عيدى الفطر والأضحي، فعاش الطفل طفولة قاسية وحيداً بالمدرسة الإيطالية الداخلية بسبب زوجة أبيه الاولى التى كانت وراء طلاق أمه من أبيه، والتحاقه بمدرسة داخلية، ولا يشاهد أمه إلا مرتين كل أسبوع!!!.
وآثر الطالب محمود مرسى أن يلتحق بكلية الأداب- قسم فلسفة- بجامعة الإسكندرية، حتى يلتقى بعميد الجامعة آنذاك. طه حسين والذى كان قارئاًجيداً لكتبه ومؤلفاته، والذى أشاد به يوماً عندما لعب دور البطولة فى مسرحية « أوديب « لسوفوكليس، ليصعد عميد الأدب العربى وعميد جامعة الإسكندرية د.طه حسين ليشد على يد الطالب محمود مرسى مشيداً بأدائه لشخصية أوديب، وهو لا يدرى أنه بعد 20 عاماً سيمتهن تلك المهنة ويصبح ممثلاً وفناناً مرموقاً، وعن ذلك قال فى أحد لقاءاته الصحفية القليلة « لم أفكر ولم أرغب فى أن أكون ممثلاً، ولكن كُتب على التمثيل كما لو كان قدراً لا فكاك منه «.
(مذيع البى بى سى البريطانية)
انتهى من دراسته الجامعية عمل مدرساً لمادة الفلسفة بإحدى مدارس الإسكندرية، ولكنه بعد خمس سنوات استقال من عمله عام 1950 كى يتفرغ لدراسة الإخراج السينمائي، فقام ببيع منزله حتى يجد مصاريف دراسته الجديدة، وسافر إلى دولة فرنسا ليدرس الإخراج السينمائى بمعهد الدراسات العليا السينمائية « إيديك « بباريس، وعاش فى فرنسا ينهل من دراسته الفنية، وبعد خمس سنوات سافر إلى لندن، وهناك تمكن من أن يلتحق بهيئة الإذاعة البريطانية « بى بى سى « ليعمل مذيعاً ومقدم برامج.
وأثناء عمله كمذيع بالإذاعة البريطانية حدث العدوان الثلاثى على مصر، وشنت الإذاعة هجوماً وحملة ظالمة على مصر وشخص الرئيس جمال عبدالناصر، وهنا ظهر الوجه الحقيقى الوطنى لمحمود مرسى عندما رفض أن يقرأ النشرة الإخبارية التى تتضمن هجوماً ضارياً على مصر، فأعلن استقالته على الهواء مباشرة رافضاً أن يخون بلاده من أجل حفنة اموال قائلاً «هذه هى آخر حلقة أقدمها فى هذه الإذاعة، حيث إنه لا يمكننى أن أعمل أو أقيم فى دولة تشن حاليًا عدوانًا على بلادي، وتلقى بقنابلها على أهلى فى مصر، ولتلك الأسباب أقدم استقالتى على الهواء، وسوف أعود إلى بلادى أقاتل بجانب أهلي، أعيش معهم أو أموت معهم «.
وغادر محمود مرسى لندن وعاد إلى القاهرة ليستقبله المسئولون استقبال الأبطال على موقفه المخلص لوطنه والذى نال به كل الاحترام والتقدير، فالتحق كمذيع بالبرنامج الثانى بالإذاعة المصرية، وقدم عدة برامج ثقافية وفنية ناجحة منها برنامج عن المسرح العالمي.
(.. ومذيع بالتليفزيون المصري)
وفى عام 1962 عاد محمود مرسى لعمله كمذيع، ولكن أمام الشاشة الصغيرة كمقدم برامج عبر القناة الثانية، وقدم برنامج « شخصيات مصرية « استضاف فيها فنانين وأدباء وشعراء مما دفع الوسط الفنى والثقافى لأن يحتفى به، وكان عمره وقتها 40 سنة، ورغم أهمية البرنامج الذى حمل اسم (شخصيات مصرية)، إلا أنه لم يقتنع بنفسه كمذيع، لأنه كان يرى أن ملامحه الجادة لا تتوافق مع المذيع التليفزيوني، ومع نهاية هذا العام تحولت حياة محمود مرسى بالكامل عندما عرض عليه المخرج نيازى مصطفى ليؤدى دور « عرفان « المجرم الهارب فى فيلم « أنا الهارب»، ليحقق نجاحاً كبيراً لم يكن ينتظره لتتوالى الأدوار والأفلام.
(.. ومخرج مسرحي)
لم تنحصر موهبة الفنان محمود مرسى الفنية على التمثيل الذى اكتشفه متأخراً فى سن الأربعين عاماً، أو على ما درسه فى الإخراج السينمائي، بل كانت له تجارب فى الإخراج المسرحى التليفزيونى بدأها عام 1960 بالمسرح العالمى من خلال مسرحية «بيت برنارد ألبا» للمؤلف الأسبانى جارسيا لوركا وأخرجها للمسرح فتوح نشاطى ولعب بطولتها الفنانة القديرة أمينة رزق، والوجوه الجديدة الصاعدة آنذاك سهير البابلى ونادية رشاد وإحسان شريف، كما أخرج أيضاً للتليفزيون مسرحية «القضية» تأليف لطفى الخولى وأخرجها للمسرح عبدالرحيم الزرقاني، وبطولة حسن البارودى وسعيد أبوبكر وشفيق نورالدين ونجمة إبراهيم والوجوه الشابة عبدالله غيث وعبدالرحمن أبوزهرة.
وفى العام التالى 1961 كانت النقلة النوعية بالإخراج المسرحى على المسرح فأخرج مسرحية «المحروسة» تأليف الكاتب الكبير سعدالدين وهبة وبطولة محمد السبع وصلاح سرحان ومحمد الدفراوى ورجاء حسين وتوفيق الدقن، ثم كانت آخر تجاربه الإخراجية للمسرح عام 1963 بمسرحية «قصر الأحلام» والتى شارك فى بطولتها الفنانة فاتن أنور ليتفرغ تماماً للتمثيل السينمائي.
(زوجة واحدة.. تكفي)
كانت الفنانة سميحة أيوب هى السيدة الوحيدة التى تمكنت من أن تخرج محمود مرسى من صومعته الخاصة وعزوفه عن النساء والزواج، فبالرغم أنه وصل لسن الـ 40 عاماً إلا أنه كان كارهاً فكرة الزواج والارتباط بامرأة ما، ولكن أثناء تصوير ثانى أفلامه السينمائية عام 1963 لفيلم «المتمردة» التقى بالفنانة سميحة أيوب، وأثناء التصوير وقع فى حبها، ولكنه لم يكشف عن حبه لها بسبب شخصيته المتحفظة الجادة، فهو لم يعرف قصص الحب واللهو مع الفتيات بالرغم ان تلك الأمور كانت متاحة له خاصة عندما دخل الأجواء الفنية.
وظل محمود مرسى لأكثر من عام محتفظاً بسر حبه وغرامه فى صدره، وفى نفس الوقت أحبته أيضاً سميحة أيوب ووجدت فيه شخصاً مثالياً وجاداً فى حياته، ولكنها لم تكشف عن إعجابها به وحبها له لأنها لم تجد منه أى بادرة تؤكد أنه يكن لها أى حب وغرام، إلى أن شاء القدر أن يلتقيا فى منزل زميل وصديق مشترك كان مريضاً ويسكن فى منطقة حلوان، وعند نهاية الزيارة طلب محمود مرسى منها أن تصطحبه بسيارتها فى طريقها خارج حلوان. .ولكن الزيجة لم تستمر لأكثر من ثلاث سنوات، بعد أن خفت شعلة الحب بينهما لتكتشف أنها أحبت الأستاذ والممثل، كما أنه شعر بأنه كان معجباً بعملها وقدراتها الفنية فاتفقا على الانفصال والطلاق، ولم يتزوج محمود مرسى بعدها فقد كانت هى الزيجة الوحيدة فى حياته ليتفرغ لعمله فى التمثيل، والانفراد بنفسه فى حياته الهادئة بمنزله الكائن خلف مسجد مصطفى محمود مع عدد قليل من أصدقائه يلعب معهم الطاولة، إلى جانب صديقه المقرب « الكتاب « فقد كان نهماً فى القراءة مع احتساء أكواب القهوة.
(تكريم الدولة)
كرمت الدولة محمود مرسى بحصوله على جائزة الدولة التقديرية عام 2000 تتويجاً لمشواره الفنى الطويل، كما كرم من عدة مهرجانات سينمائية منها مهرجان القاهرة السينمائي، ومهرجان الإذاعة دوالتليفزيون، ومهرجان السينما الروائية، ومع الألفية الثانية وأثناء تصوير مسلسل « وهج الصيف « أصيب فى منزله بأزمة قلبية أدت لوفاته وذلك فى 24 أبريل عام 2004 عن عمر 81 عاماً، و غدا الأربعاء يمر على رحيل محمود مرسى 20 عاماً، ومن مفارقات القدر أن الفنان محمود مرسى قام بكتابة نعيه، وذكر فيه أسماء أقرب أصدقائه واحتفظ بها فى مكان معروف بمنزله، وأوصى بأن تكون جنازته بسيطة، وأن يدفن بمدينة الإسكندرية، وقام ابنه الوحيد علاء محمود مرسى بنقل جثمان والده بمنزله بالقاهرة فى هدوء بلا صخب إعلامى إلى مقبرته بالإسكندرية تنفيذاً لوصيته.
(99 عملاً فنياً)
قدم محمود مرسى خلال مسيرته الفنية والتى وصلت إلى ما يقرب من خمسين عاماً 99 عملاً ما بين أفلام سينمائية ومسلسلات إذاعية وتليفزيونية ومسرحية بالإضافة إلى الأعمال التى قام بإخراجها، ولكنه كان دائماً ما يهتم بالنص والهدف أو الرسالة التى تتضمنها العمل، لذلك لم يكن الأجر المادى هو الهدف الرئيسى لعمله، فقد كان يضع الأمور المادية فى ترتيب متأخر، لذا تجد مسيرته السينمائية لم تتعدى الـ 26 فيلماً كان اخرها فيلم « الجسر « تأليف وإخراج عمرو بيومي، مع مادلين طبر والطفل أحمد حسنين.
.. كما كان للمسلسلات الدرامية التليفزيونية نصيب الأسد فى اهتماماته حيث قدم ما يقرب من 33 مسلسلاً تليفزيونياً أشهرها: العملاق والذى جسد فيه حياة الأديب الراحل عباس العقاد، إلى جانب مسلسلات رمضان والناس– زينب والعرش– الرجل والحصان– رحلة السيد أبوالعلا البشري– العائلة– بنت الأيام – سنة أولى حب– المانشيت الأحمر والذى كان أول مسلسل تليفزيونى يقوم ببطولته فى الستينات، بالإضافة إلى رائعة نجيب محفوظ مسلسلاً قصر الشوق وبين القصرين، كما قدم للإذاعة 25 مسلسلاً من بينها: قاهر الظلام– وتمضى الأيام– رجل من كوكبنا– الضيف الغريب– أنا وأنت وسنوات العمر– الإمام أبو حامد الغزالي– أحببت فيك عذابي، إلى جانب عدد قليل من السهرات التليفزيونية والإذاعية من بينها دخان الجريمة، وممنوع بأمر الأولاد، وسكة رجوع.