على مدار عام ونصف العام.. تشكلت رؤيتان متناقضتان لما يشهده الشرق الأوسط من تصعيد.
الأولى: ترى أن هجوم حماس فى 7 أكتوبر 2023 أحدث قطيعة مع الماضى.. ودفع إسرائيل نحو رد عنيف فاق كل حدود المعقول.
الثانية: تعتبر ما يجرى استمراراً لنمط إقليمى طويل من التوازنات الهشة.. والانفجارات المؤجلة. لكن مهما كان التفسير.. فإن ما فعله الاحتلال فى غزة شوَّه سمعته إلى درجة لا يمكن إنكارها ويحاول الآن.. عبر مهاجمة إيران.. إصلاح هذا الخراب.. ولكن بثمن بالغ الخطورة.
لم يكن الرد الإسرائيلى على هجوم أكتوبر مجرد رد عسكرى.. بل كان خروجاً عن كل ما يمكن تبريره بالقانون الدولى أو حتى بالمنطق الإستراتيجى. إبادة جماعية فى غزة.. توغل فى جنوب لبنان.. قصف متكرر لسوريا.. والآن هجمات مباشرة على إيران. هذه ليست «ردوداً» على تهديدات آنية.. بل خطوات تعكس سعياً لفرض واقع جديد.. تصنعه حكومة إسرائيلية مهووسة بأجندتها الداخلية.. ومتعطشة لإعادة صياغة المشهد الإقليمى بالكامل.
كان ما يعرف بـ «السلام الإقليمى» نتيجة توازن دقيق.. لا يبنى على العدالة.. بل على التجاهل المتبادل لمصالح الشعوب. دول الخليج لعبت دور الوسيط بحذر..
لكن ما كشفه العدوان على غزة أعاد ترتيب المشهد. لم تعد إسرائيل قادرة على الاختباء خلف سردية «الدفاع عن النفس». بات واضحاً أنها تقود مشروعاً استيطانياً توسعياً لا يعترف بالحدود ولا بالإنسانية. دخول إيران وحلفائها حزب الله.. والحوثيين.. والحشد الشعبى على الخط.. جاء كتحول رمزى وسياسى خطير.. فالدفاع عن القضية الفلسطينية لم يعد مقصوراً على أصوات المنظمات الحقوقية.. بل بات ورقة فى يد محور إقليمى مناهض لإسرائيل.. وفاعل على الأرض.
منحت الولايات المتحدة.. ومعها معظم الدول الغربية.. إسرائيل غطاءً شبه مطلق. باسم «ضمان أمن الشعب اليهودى» و«الشراكة الإستراتيجية».. تغاضى الحلفاء عن فظائع غزة والضفة. لكن الدعم المشروط كان دائماً يعتمد على «التصرف بمسئولية». اليوم.. تجاوزت إسرائيل هذا الشرط. فهى لا ترد على التهديدات فقط.. بل تصطنعها وتستخدمها لتوسيع نطاق حرب مفتوحة تهدد استقرار الشرق الأوسط كله.
لقد تحولت من شريك يتلقى الدعم للدفاع عن نفسه.. إلى عنصر رئيسى فى زعزعة الاستقرار الإقليمى. والأخطر.. أن حكومة نتنياهو تستغل هذه الفوضى داخلياً لتثبيت سلطتها.. على حساب أمن الإسرائيليين أنفسهم. تل أبيب لم تعد تخوض الحروب لحماية مواطنيها فقط.. بل لحماية السلطة وإسكات النقد الداخلى.. وترميم صورتها الدولية بعد الانكشاف الأخلاقى فى غزة.
ما يجرى الآن مع إيران يبدو وكأنه فصل جديد من «الهروب إلى الأمام». الضربات الإسرائيلية تحاول استعارة خطاب قديم مألوف: العدو الجار المتربص.. الخطر النووى.. الحاجة لضربة استباقية.. والمطالبة بدعم دولى. لكن العالم أو جزءاً كبيراً منه لم يعد يرى إسرائيل كما كانت تقدم قبل الحرب على غزة.
الهجوم على إيران ليس إلا محاولة لاستعادة رواية «الضحية».. والظهور من جديد ككيان محاصر يحسن الدفاع عن نفسه. فى المقابل.. تراجعت صور الأطفال الجائعين فى غزة.. والمجازر فى رفح الفلسطينية.. وطوابير الإغاثة التى تقصف.. فتحت جبهة جديدة.. وعادت عبارات «ضبط النفس» و«الحق فى الدفاع» لتملأ بيانات وزارات الخارجية الغربية.. وكأن الزمن عاد إلى لحظة ما قبل أكتوبر.
الضربات ضد إيران.. حتى وإن حققت بعض المكاسب التكتيكية.. تفاقم خسائر إسرائيل الإستراتيجية. الثقة تتآكل بين الحلفاء. الرأى العام الغربى بدأ يغير نبرته. فى إسرائيل نفسها.. هناك من يرى أن حكومة نتنياهو تقود البلاد نحو كارثة طويلة الأمد.. لا تعرف نهايتها.
الضربات على إيران لن تنقذ إسرائيل من فقدان مكانتها الأخلاقية.. ولا من العزلة الدولية المتنامية. الحرب لم تعد سلاحاً يمكن استخدامه لإخفاء جريمة.. أو كسب ولاء سياسى. الحرب.. الآن.. باتت دليلاً على الإفلاس السياسى والأخلاقى.. لا وسيلة للخلاص.