رحلات لإنتاج جيل يهودى أكثر ولاء لإسرائيل
تاريخيا لم ينفصل الصراع السياسى فى العالم عن الدعاية السياسية على مر السنين، فمنذ هتلر الذى ابتكر منصب وزير الدعاية السياسية وتولاه جوبلز مهندس الرايخ الألمانى، تطور النسق الدعائى للسياسة بشكل كبير وأنفق عليه المال الوفير، واستخدمت التكنولوجيا الحديثة لترسيخ الروايات على أغراضها وعلاتها.
سأحدثكم هنا عن واحد من أخطر برامج الدعاية الإسرائيلية فى ربع القرن الأخير وهو برنامج «بيرث رايت» إسرائيل، أو «الحق بالولادة فى إسرائيل» الذى يموّل رحلات مجانية لليهود الشباب إلى إسرائيل، وتأسس سنة 1994 بهدف تقوية روابط اليهود حول العالم بإسرائيل وتعزيز ارتباط الجيل اليهودى الشاب فى الشتات، لا سيما فى الولايات المتحدة، بإسرائيل وتاريخها وروايتها السياسية وتعزيز الإحساس بالانتماء إلى الهوية اليهودية، البرنامج نظّم أول رحلة سنة 1999وجلب منذ ذلك التاريخ ما يقرب من مليون شاب يهودى إلى إسرائيل عبر رحلات سياحية مجانية بعنوان تعليمى هدفها تكريس واقع الاحتلال وسرقة الأرض، ليصبحوا فى المستقبل مدافعين عن الاحتلال أو مسوقين للرواية الإسرائيلية فى العالم.
قبل أيام نشر موقع ذا إنترسبت الإخبارى الأمريكى المعروف تقريرا حول هذا البرنامج مشيرا إلى أن المتوقع أن يشارك فى البرنامج هذا الصيف 30 ألف مشارك، رغم الأوضاع الأمنية والسياسية المتوترة، كشف التقرير أن محتوى الرحلات موجّه سياسيًا بوضوح، ويتضمن روايات أحادية تكرّس سردية الاحتلال وتهمّش بالكامل الرواية الفلسطينية، ويشمل البرنامج زيارات إلى مواقع عسكرية، لقاءات مع جنود، ومحاضرات يلقيها دبلوماسيون وضباط سابقون، تركز على الدفاع عن سياسات إسرائيل، وإنكار وجود شعب فلسطينى أصيل، بحسب ما جاء فى خطاب الدبلوماسى الإسرائيلى إيدو أهرونى أمام المشاركين.
بالطبع كل هذا تحت مسمع ومرأى من وسائل الإعلام العالمية، بل هناك رحلات مشابهة نظمت لصحفيين حول العالم لتوجيه الرأى العام نحو الرواية الإسرائيلية، وبحسب دراسة ممولة من «بيرث رايت» نفسه، فإن المشاركين يخرجون من هذه الرحلات بمواقف أكثر يمينية، ويصبحون أكثر استعدادا لرفض الاتهامات الموجهة لإسرائيل بارتكاب إبادة جماعية فى غزة.
كشفت الشهادات والتسجيلات التى حصل عليها إنترسبت أن بعض قادة الرحلات كانوا يعبّرون علنا عن ازدرائهم لحياة الفلسطينيين، فى حين وُصِف المستوطنون المسلحون فى الضفة الغربية بأنهم متطوعون محليون.
تؤكد التقارير أن الحكومة الإسرائيلية ومتبرعين كبارا مثل عائلة الملياردير اليمينى شيلدون أديلسون، يرون فى هذا البرنامج استثمارا إستراتيجيا طويل الأمد فى الدفاع عن إسرائيل على الساحة العالمية، لا سيما فى مواجهة الأصوات اليهودية المتزايدة المناهضة للاحتلال، والتى بدأت تتصاعد خاصة فى الجامعات الأمريكية، وفى الوقت الذى تسجل فيه الجامعات الأمريكية احتجاجات واسعة ضد الحرب على غزة وتزداد الضغوط الشعبية على دعم الولايات المتحدة لإسرائيل، يبدو أن «بيرث رايت» يمضى فى الاتجاه المعاكس، ويعمل على إنتاج جيل يهودى أكثر ولاء لإسرائيل.
بالنسبة للرحلات التى تلت السابع من أكتوبر فتعمدت مشاهدة المعالم السياحية والتنقل على مدى أيام بين المناطق والمدن الفلسطينية المحتلة من حيفا والقدس وجبل مسعدة والبحر الميت وغيرها بينما يُمنع الفلسطينيون من التحرك فى أرضهم، ويعتمد برنامجها على البعد السياحى لرواية كذبة حق الإسرائيليين فى الأرض وطمس وإخفاء حقيقة أن للأرض أصحابًا هُجروا منها بالقتل والإرهاب الإسرائيلى.
هذه الجولات تترافق مع أصوات انفجارات مدوية قادمة من قطاع غزة، حيث يتوالى سقوط القنابل الإسرائيلية على بعد أقل من ميل واحد، ويتصاعد الدخان فى أرجاء غزة، ويتردد صدى نيران المدفعية، بينما يتجاهل السياح التدمير الإسرائيلى المستمر للقطاع، والذى أسفر حتى الآن عن مقتل أكثر من 53 ألف فلسطينى وإصابة 110 آلاف آخرين.
يحمل هذا البرنامج الدعائى الخبيث رسالة مفادها طمأنة المشاركين بأنهم قادرون على دعم إسرائيل وهى تواجه اتهامات بموجب القانون الدولى بأن هجومها على غزة يشكل إبادة جماعية، ويقلب البرنامج الحقيقة ليقدم رواية مفادها أن الإسرائيليين، واليهود الذين يزورونهم، هم ضحايا الإبادة الجماعية!!
السؤال الذى يبحث عن إجابة: كيف يحدث هذا فى عالم تجتاحه التكنولوجيا التى تصور كل كبيرة وصغيرة على الأرض وكيف يستقبل دعاة السلام فى العالم ودولهم التى تتشدق ليل نهار بالحرية مثل هكذا مخططات دعائية والتعامل معها على أنها عادية عابرة؟!