وقف القتال والسلم المستدام أولوية قصوى لاستعادة دوره كسلة غذاء للعالم
دخلت الأزمة فى السودان عامها الثانى قبل، ومازالت آتون الحرب مشتعلة وسط محاولات دولية لايجاد حلول لها، ففى واحدة من أسوأ الأزمات العالمية على مدار عقود، يواجه السودان مأساة تدمى القلوب ويندى لها الجبين، وتفوق خسائرها المادية والبشرية قتلى ومشردين ولاجئين، فى ظل استمرار المواجهات العسكرية بين قوات الجيش السودانى وميليشيات الدعم السريع بدلا من الحوار والتفاهم، لتدخل البلاد فى نفق مظلم مع استمرار النزوح والدمار والمجاعة.
السودان الذى كان المعروف بسلة الغذاء فى حال استغلال موارده للعالم العربى ومنطقة الشرق الأوسط، فى ظل مقوماته الطبيعية من الأراضى الزراعية الخصبة الصالحة لكافة المنتجات ومصادر المياه الوفيرة، لم يعد بمقدوره الآن أن يكون فقط سلة غذاء لشعبه.
وباعتبارها أكبر دولة زراعية فى أفريقيا من حيث مساحة الأرض، تعد الزراعة العمود الفقرى للاقتصاد السودانى، حيث تمثل 60٪ من إجمالى الصادرات الوطنية وثلث الناتج المحلى الإجمالى ويعمل بها أكثر من نصف القوى العاملة فى السودان، بحسب تقرير لنبك التنمية الإفريقى لعام 2022، كما يعد السودان أكبر مصدر فى العالم للبذور الزيتية.
ومع أن الذهب يشكل أكبر صادراته بنحو 45٪ عام 2022، يعد السودان أيضًا أحد أكبر خمسة منتجين للسمسم على مستوى العالم، ويوفر أكثر من 80٪ من الصمغ العربى عالميًا، والذى يستخدم فى الصناعات الغذائية والدهانات ومستحضرات التجميل. وبالإضافة إلى ذلك، يتمتع السودان بإمكانات عالية للثروة السمكية، كما أنه موطن لأكثر من 110 ملايين رأس من الماشية.
وكان يرجى من هذه المقومات أن توفر للبلاد فرصًا هائلة لتحقيق استراتيجية تنموية وبأن تصبح مصدرًا للغذاء للعالم العربى وخارجه، ومع ذلك، فإن الأراضى المستغلة حاليًا تقل عن ثلث الأراضى الزراعية، ويواكب ذلك انخفاض عام فى الإنتاجية، فى ظل استمرار أزمتى الغذاء والطاقة عالميًا، فضلاً عن الزيادات الكبيرة فى أسعار الأسمدة.
والحرب الأهلية لا تزال تشكل التهديد الأكبر لحاضر ومستقبل السودان، حيث يواجه فى ظل استمرارها أزمة إنسانية غير مسبوقة، تهدد بحدوث مجاعة جماعية والموت جوعًا. فبالإضافة إلى عدد القتلى الذى يربو إلى 15 ألف شخص وأكثر من 33 ألفًا من الجرحى، تسببت الاشتباكات فى تشريد نحو 8.6 مليون شخص داخل السودان وخارجه، بينما يواجه نقصًا بنسبة تتراوح بين 70 و80٪ من المرافق الصحية، ومخاطر انتشار الأوبئة والأمراض، بحسب تقرير لمنظمة الصحة العالمية.
وفى يوليو من العام الماضى، كشفت لجنة الإنقاذ الدولية وهى منظمة غير حكومية عالمية للمساعدات الإنسانية والإغاثة أن حوالى 40٪ من سكان السودان يعانون من الجوع، وحذرت وكالات الإغاثة التابعة للأمم المتحدة من أن حوالى 230 ألف طفل وامرأة حامل وأمهات جدد من المحتمل أن يموتوا بسبب الجوع فى غضون الأشهر المقبلة، فى حين يحتاج نحو 25 مليون شخص إلى مساعدات إنسانية عاجلة.
وبالتوازى مع هذه التقارير المؤلمة، كشفت منظمة اليونيسف أن ما لا يقل عن أربعة ملايين طفل يعانون من سوء التغذية الحاد، وربما يواجه عدد منهم قريبا الموت جوعًا، مشيرة إلى أن مناطق دارفور وكردفان والخرطوم هى الأكثر معاناة.
لقد طالت تأثيرات الحرب كافة أوجه الحياة فى السودان وفى مقدمتها الاقتصاد السودانى الذى يواجه أزمة كارثية تهدد بوصوله إلى نقطة اللاعودة، وبحسب جبريل إبراهيم وزير المالية السودانى فقد انكمش الاقتصاد بنسبة 40٪ خلال العام الماضى، ومن المتوقع أن يستمر فى الانكماش بنحو 28٪ خلال العام الجارى، كما تقلصت إيرادات الدولة بأكثر من 80٪.
وتقول لجنة الإنقاذ الدولية إن تأثير الحرب على القطاع الزراعى فى البلاد لا يهدد أمنها الغذائى فحسب، ولكنه يؤثر أيضًا على البلدان المجاورة التى تستورد المواد الغذائية من السودان.
وبينما يواجه السودان واحدة من أسوأ موجات النزوح فى العالم، وفقًا لبرنامج الأغذية العالمى التابع للأمم المتحدة، فإن الضغط سيتزايد على الموارد الغذائية الشحيحة بالفعل.
ومنذ اندلاع الحرب فى أبريل من العام الماضى، واصل الجنيه السودانى تراجعه أمام العملات الأجنبية، ليخسر أكثر من 50 بالمائة من قيمته، بحيث يتم تداول الدولار الأمريكى حاليا بأكثر من 1250 جنيها سودانيًا مقابل 600 جنيه سودانى قبل الحرب.
وبحسب صندوق النقد الدولى، فإن الحرب رفعت أيضا معدل البطالة فى السودان من 32.14 بالمئة عام 2022 إلى 47.2 بالمئة عام 2024، بينما توقعت دراسة أجراها المعهد الأمريكى للسياسات الغذائية أن يخسر السودان 5 ملايين وظيفة بسبب الحرب.
وفى الوقت نفسه، قفز معدل التضخم فى السودان إلى 256.17 فى المائة، بزيادة قدرها 117.4 فى المائة، وفقا لبيانات صندوق النقد الدولى.
يصنف الخبراء أن نقص الموارد الطبيعية من الغذاء والماء كواحد من أكبر خمسة مخاطر تواجه العالم فى السنوات العشر المقبلة، ومن هذا المنطلق وفى ظل خطر نقص الغذاء وتعطل سلاسل التوريد وغلاء الاسعار فإن إنهاء الحرب فى السودان، واستعادة قدراته الإنتاجية لا يشكل مصلحة للسودان وحده وإنما مصلحة للدول العربية وربما العالم برمته ولا سيما فى ظل استمرار الحرب فى أوكرانيا – إحدى سلال الخبز الرئيسية فى العالم.
وتعهدت الدول المانحة بتقديم أكثر من مليارى يورو «أو أكثر من 1.2 مليار دولار» كمساعدات للسودان خلال مؤتمر استضافته العاصمة الفرنسية باريس فى الأسبوع الماضى، ولكنها لن تفى بالاحتياجات العاجلة التى يحتاجها السودان والتى تربو على 4 مليار دولار لضمان توفير المساعدات الإنسانية اللازمة للسكان وللاجئين منهم فى الدول المجاورة على حد سواء، علاوة على افتقادها إلى آليات التنفيذ.
ورغم الحاجة الماسة لمعالجة النقص الهائل فى المساعدات إلا أنها عمليًا لن توقف الحرب وهى الأولوية الأكثر إلحاحًا إذ أريد للسودان أن يستعيد دوره المأمول فى أن يصبح سلة غذاء لنفسه وبقية دول العالم.
ومؤخرًا سعت الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقى إلى تنشيط دبلوماسيتها من خلال تعيين مبعوثين جدد للسودان، ولكن جهود إنهاء الحرب وتعزيز السلام لا تزال تفتقر إلى التماسك والتكاتف المنشود.
ويكفى السودان ما أريق من دماء أبنائه فى حرب غير الواضح إلى أين تتجه، وهو ما تؤكد عليه مصر حرصاً على استقرار السودان، وتماسكه وحفاظاً على مؤسساته الوطنية، فمصر تسعى إلى أن يعود الاستقرار إلى السودان، وأن تتوقف أصوات البنادق وأن تحل الأزمة بالحوار الذى يؤدى إلى عودة الهدوء، ولذلك فإن العالم مدعو لبذل المزيد من الجهود المنسقة للضغط من أجل إنهاء الحرب فى اطار احترام الدولة الوطنية، وبناء سلام مستدام بين مختلف الأطراف، وليكن الحل سودانيًا وعربيًا، فأهل مكة أدرى بشعابها.