قاصة وروائية كبيرة ، تنسج فى أعمالها خيوط عوالم شديدة الخصوصية ، تقدم فى كتاباتها صراعات الإنسان والمرأة مع الذات والغربة وسط عالم صاخب يعانى فيه الفرد قسوة الوحدة ومرارة العزلة .
صدر لها عدد من الأعمال الأدبية التى لاقت نجاحا كبيرا وحققت حضورا لافتا منها: «شجرة اللبخ» ،»بنات أحلامى «،»حائط غاندى « ،»ذاكرة التيه « وصدر لها حديثا رواية « بالحبر الطائر « ترصد قصص أربع نساء صديقات منذ الجامعة استقرت كل واحدة فى بلد وعانت من غربتها ورحلتها .. حصدت الكاتبة جائزة الدولة التشجيعية فى القصة القصيرة ، كما وصلت مجموعتها « حائط غاندى للقائمة الطويلة بجائزة الملتقى للقصة القصيرة .
>> يتعدى كون العديد من الكتّاب فى الأصل أطباء حد الصدفة، فى رأيك ومن خلال تجربتك ما علاقة الأدب بالطب؟
>تساعد دراسة الطب، فى تصورى المتواضع، على ربط الصحة الجسدية بالصحة النفسية، وتمنح الدارس، إن كان ذا أفق واسع، قدرة على التفهم لاندفاع البشر وعصبيتهم وتقلباتهم، أما ممارسة الطب ففيها تعامل مباشر مع «جمهور المنتفعين» من الخدمة الطبية بمختلف الأعمار والطبائع والمستوى الاجتماعى والتعليمي، وبالتالى فالإصغاء لمفردات الكلمات، للحكايات، وللغة الإيماءات والملامح.. إلخ، تمنح الكاتب زخما يحتاجه العمل الأدبي، لكن ممارسة الطب فى المقابل، كما تعلمين، تستنزف الوقت والجهد والأعصاب، ولهذا رأينا يوسف إدريس يتفرغ للكتابة، وكذلك محمد المخزنجى من الأجيال القريبة، أما الآن فالوضع اختلف وصار التفرغ صعبا، فى حين نُظمت جوائز، خاصة العربية منها، بقيم مادية «نقدية» عالية، فاتجهت أعداد أكبر فى الوقت الحالى إلى الكتابة واجتهدت فى إثبات جديتها، وبنفس النسبة تقريبا من هؤلاء عدد من الأطباء، لكن لأنهم «الأطباء» معتادين على المثابرة، كما تنمى دراستهم من قدراتهم الذهنية، فقد نجحوا وظهروا أكثر من غيرهم.
>>المكان بطل فى كتابتك ، التباين بين المدينة والقرية مثلا فى روايتك «شجرة اللبخ»، وهنا الأماكن والبلدان التى أختارت كل بطلة فى روايتك الجديدة «بالحبر الطائر» غربتها ومنفاها، حدثينا عن ذلك؟
>نعم؛ المكان بطل وليس مجرد مسرح للأحداث، وثمة علاقة جدلية بينه وبين الشخصيات ومجريات الأحداث الروائية، ففقدان سحر بطلة «ذاكرة التيه» للبحر «فقدت البحر الذى كان لي»، بسبب العدوان الاسرائيلى وما تلاه من تهجير عام 67 لسكان مدينة بورسعيد الساحلية المنفتحة، أحدث انكسارا روحيًا ونفسيا للبطلة الطفلة، وعجزا عن التواؤم مع الأجواء الريفية، فى القرية مسقط رأس الأب، التى أكلت الدودة فيها محصول القطن وتسببت فى موت الجد محسورا على جنته «ثروته» البيضاء، وفى اختناق اجتماعى أضيف للموروث الضاغط، أما فى «شجرة اللبخ» فالمكان هو عزبة رضوان بيه فى درب السوالمة، التى مثَّلت سلطة مركزية مصغرة، وسَمت حياة الأسرة والفلاحين بالخضوع والإذلال، ثم السرايا فى شارع محمد على بالقاهرة، التى مثلت رمزا للتحديث المعمارى بالقاهرة كبرت معه طموحات النخبة المصرية فى الاستقلال عن المحتل البريطاني، وبالنسبة لروايتى «بالحبر الطائر» فالمكان الملائم لفكرة الرواية هو الدول الكبرى التى يشار لها بالبنان كنموذج لتحقيق الرفاهية لشعوبها وترسيخ أفكار حقوق الإنسان، لكى نفكر ونتساءل إن كان هذا قد تحقق فعلا؟ هل نجح فى أن يمنع الفقر ويقلل أعداد المشردين فى أميريكا مثلا؟ أو التمييز فى فرنسا؟ وعرب المهجر من جهة أخرى أين أصبحوا؟
(حكايات النساء)
>> كتابتك مليئة دائما بحكايات عن النساء، مثل «سحر» بطلة ذاكرة التيه، وهنا الصديقات على حرف النون لكن ذلك لا يورطك فى النوع الشائع من الكتابة النسوية عن موروث القهر لدى النساء لكنه خيط أقرب للرغبة فى مشاركة واقع هؤلاء النساء، طريقة للتعبير عن الوجود. هل فل هذا التفسير صحيح؟
>نعم بالفعل، وأشكرك على قراءتك العميقة، فمشاركة عوالم النساء هدف رئيسى لدي، لأننى أعتبر أن سببا رئيسيًا فى المشكلات بين البشر عموما، وكذلك بين المرأة والرجل على وجه الخصوص، هو عدم الفهم. نعم، أطمح لأن نفهم جميعا، نفهم أنفسنا، رغباتنا ومخاوفنا وعُقدنا، طموحاتنا ومعوقات تحقيقها، أطمح أيضًا لأن نفهم من نحبهم وكذلك من نكرههم، أما صورة البنت التى يحبسها أهلها فى غرفة مغلقة ويقيدونها بالحبال وما إلى ذلك، فربما استبدلها الواقع فى صفحات الحوادث بجرائم عنف ضد النساء والأطفال، وربما جذبنى هذا للقراءة عن جرائم الشرف بين عرب المهجر وتأثير الجاليات والموروث الثقافى على الأسر التى يولد أبناءها ويكبرون فى الغرب، مع الكثير من الازدواجيات وصور الفصام، وعلى مستوى آخر، أميل أيضًا إلى تحرى العنف الناعم الذى يسرى سريان الماء فى الأوانى المستطرقة فلا يشعر به أحد، والعنف الذاتى والخضوع الطوعى للأفكار والتقاليد السائدة.
>> هل تفضلين تقنية معينة فى كتابة «الرواية «؟ تميلين مثلا لتقنية الأصوات؟
>فى ذاكرة التيه استعنتُ براوٍ بضمير المتكلم من أجل تقديم حياة بنت من الطفولة إلى النضج مع خلفية عن أحداث بلدنا بنفس الفترة، فوصفتها د. شيرين أبوالنجا بأنها «رواية امرأة ووطن»، ورغم أن الراوية قدمت حياوات آخرين (الأسرة والأصدقاء) من «وجهة نظرها»، إلا أننى لهذا السبب بالأخص استخدمت راوٍ عليم فى «شجرة اللبخ» لعدد كبير من الشخصيات، ووجهات النظر، نكاية فى فكرة الشخصية المركزية لصاحب العزبة المستبد، ثم قادتنى «بالحبر الطائر» إلى مزيد من الحرص على التعدد، تعدد فى الأماكن وفى الأزمنة واللغات والأصوات، مع خمس شخصيات رئيسية بضمير المتكلم بالأساس.
>> وهل يفرض الموضوع التقنية أم ماذا؟
>نعم، فالموضوع هو الذى اختار التقنية إلى حد كبير، مع ميل شخصى لدى إلى هذا التعدد والتوسع بمحاولة ترسيخ فرص لدِمقرطة السرد، ومنها أن الحوار الذاتى قد ينقسم بين المتكلم والمخاطب للتعبير عن اغتراب الذات عن ذاتها، والنهايات المفتوحة، والمزاح لخلخلة التماسك.
(الغربة داخل الذات)
>> الوحدة، وغربة الإنسان داخل ذاته ووسط البشر طاغية فى روايتك الجديدة «بالحبر الطائر».. الكثير من الشجن يقطر من بين السطور.. شعرت بصدق كبير فى الكتابة وتماس بين مشاعرك وأفكار بطلاتك فهل ألقى العالم ووحشته هذه الظلال على عملك الأخير؟
> غنى عن القول أن المفارقة فى عصرنا هى أن تكنولوجيا الاتصالات تجعلنا نتواصل وتشعرنا بأننا نعيش فى عالم واحد متشابه فى مشاكله وهمومه يدعونا للتكاتف و..و..، بينما كل شيء آخر يعمق عزلتنا واختلافنا ومخاوفنا من بعضنا البعض التى تصادر على إمكانية التفهم، بل وتقود إلى الارتياب والعدائية.
>> أعمالك الروائية رائعة وناجحة، وحققت شهرة كبيرة لكن المفارقة حصولك على جائزة الدولة التشجعية فى القصة القصيرة، وكذلك وصلت إحدى مجموعاتك القصصية للقائمة الطويلة لجائزة الملتقى .حدثينا عن كتابتك للقصة القصيرة، والفرق بينها وبين حالة كتابة الرواية؟
> ما أعشقه فى القصة هو كَونها مساحة صغيرة يمكن أن تحوى عالمًا كبيرًا، قدرة الكاتب على السيطرة تتعاظم فى القصة، غير أننى صرت أميل مؤخرا إلى كسر هذه الحديدية، أما الرواية فمنذ فترة طويلة قادرة على احتواء أجناس وعوالم مختلفة كالرسم والموسيقى والوثائق والصور ضمن إطارها أو تتمرد، لتصبح كتابة عبر نوعية.