تبدو إسرائيل اليوم وكأنها تجاوزت كل الحسابات السياسية، وكل النداءات الأخلاقية والإنسانية. فى تصريحات صريحة لا تحتمل التأويل، قالت السفيرة الإسرائيلية لدى المملكة المتحدة، تسيبى حوتوفلي، ما يشبه الإعلان الرسمى لنهاية حل الدولتين: «لم نعد مستعدين للمساس بأمننا». إنه موقف ليس جديدًا، لكنه اليوم بات أكثر وقاحة ووضوحًا. إسرائيل لا تبالى بأصوات العالم، حتى من حلفائها الغربيين. وما كانت تخفيه دبلوماسيًا فى الماضي، بات يُقال على الهواء مباشرة.
لقد تحوّلت الدبلوماسية الإسرائيلية من مجرد الدفاع إلى الهجوم، بل إلى إنكار كامل لحق الفلسطينيين فى دولة مستقلة، والمضى فى سياسة فرض الأمر الواقع، سواء عبر المستوطنات أو عبر استمرار الحرب فى غزة. وعندما تقول إسرائيل اليوم إنها لن تقبل بدولة فلسطينية، فهى لا تكتفى برفض المبادرة، بل تصف كل محاولة للاعتراف بها بأنها «مكافأة للإرهاب».
وهنا تكمن الخطورة الكبرى فما بعد 7 أكتوبر، إسرائيل لا تسعى فقط إلى تفكيك حماس، بل تُعيد رسم الخطوط للمنطقة كلها. والحقيقة أن تصريحات حوتوفلى تتجاوز كونها موقفًا دبلوماسيًا؛ إنها تعكس توجّه حكومة إسرائيل الحالية، التى ترى فى أى صوت داعٍ للتسوية أو وقف الحرب تهديدًا سياسيًا يجب سحقه.
هذا العناد الإسرائيلي، وهذا الإصرار على تجاهل المسار السياسي، لن يقود إلا إلى مزيد من الفوضى وانعدام الاستقرار. وهنا تبرز أهمية ما قاله الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذى أكد أنه «لا استقرار فى المنطقة دون حل الدولتين». إن مصر، بما تملكه من ثقل تاريخى وجغرافي، تدرك أن تجاهل حقوق الفلسطينيين لن يجلب لإسرائيل الأمان، بل مزيدًا من التطرف، والعنف، وعدم الاستقرار الإقليمى والدولي.
السؤال الجوهرى اليوم ليس ما إذا كان حل الدولتين ما زال مطروحًا. السؤال هو: هل يقبل العالم أن يترك مصير الملايين من البشر رهنًا لحكومة ترى فى السلام خطرًا، وفى الفلسطينيين شعبًا يجب «إعادة تثقيفه» كما صرحت السفيرة؟ مستشهدة بنموذج ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية. هذه النظرة، التى تعتبر الفلسطينيين مسئولين بالكامل عن الوضع الراهن، تتجاهل تاريخاً طويلاً من الاحتلال والصراع، وتزيد من تعقيد المشهد بدلاً من تبسيطه.. وفى المقابل، ما زال المجتمع الدولى يتعامل مع إسرائيل بمنطق الحليف الذى يجب احتواؤه بدلًا من مواجهته. وبدلًا من الضغط الحقيقي، نجد إداناتٍ رمزية، وتراجعات متكررة، بل وصفقات أسلحة مستمرة. وفى ظل ذلك، فإن من يدفع الثمن هم المدنيون الأبرياء، من كلا الجانبين، ومعهم مستقبل السلام الذى يبدو اليوم أكثر هشاشة من أى وقت مضي.
رفض إسرائيل الصريح لحل الدولتين، وتمسكها بالمسار العسكرى والأمنى فقط، ينذر بمستقبل مظلم للمنطقة. فبدون أفق سياسى واضح، ودون حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية، سيبقى الصراع دائراً، وستستمر دوامة العنف، مما يُعيق أى جهود لتحقيق السلام والاستقرار على المدى الطويل.
التصريحات الإسرائيلية الأخيرة تُشير إلى أن الأولوية القصوى لإسرائيل هى أمنها، حتى لو كان ذلك على حساب تجاهل الدعوات الدولية للسلام وحل الدولتين. وهذا التوجه، الذى يعزز من عزلة إسرائيل دولياً، يمثل تحدياً كبيراً للمجتمع الدولي، الذى يجب أن يضطلع بدوره فى الضغط من أجل إيجاد حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية.فإسرائيل اليوم لا تخشى أحدًا… لكن العالم بأسره عليه أن يخشى نتائج ذلك.