كثيرا ما نقول « الشيطان يكمن فى التفاصيل « وهو تعبير كنائى يشير إلى أمور غامضة قد تكون مستترة فى التفاصيل ، ونستخدم هذه الفكرة ونحن نقرأ الأحداث المبعثرة الجارية ونحاول ربطها من حيث المسببات والنتائج وصولا الى الحقيقة ، لكننا ودون أن ندرى نستغرق كل جهدنا فى جمع التفاصيل التى تقودنا الى مزيد من التفاصيل حتى نسقط فى مستنقع المنمنمات الفكرية الصغيرة ومتناهية الصغر ، وكلما توغلنا فى كل تفصيلة تقودنا الى مزيد من التفصيلات والتى تبتعد بنا عن مركز الفكرة الأساسية ، بيد أن هناك خطة إلهاء تستهدف إبعاد البعض عن الأفكار الأساسية وتوجيههم الى حيث توجد التفاصيل ، ولاننا نظن ونردد ان الشيطان هناك رابض وكامن ومقيم فى التفاصيل فجميعنا يحاول البحث عن مكان اختبائه حتى يظفر بالحقيقة المجردة ، ونهمل جميعا العناوين الكبيرة والأفكار الرئيسية ، لكننى وخلال متابعة دقيقة لأدق تفاصيل كل الملفات السياسية والاقتصادية الحاصلة فى الإقليم لم أجد أثرا للشيطان فى كل هذه التفصيلات التى ندور حولها آناء الليل وأطراف النهار، تفاصيل عادية ومنطقية ومسببات تقود إلى نتائج ، فعلى سبيل المثال نجد زيت يسكب على جذوة قابلة للاشتعال فترتفع الحرائق مع هبوب ريح صرصر عاتية مصادفة فتنتقل النيران من مكان الى مكان وتتمدد آثارها وحالة قتل وابادة يتبعها حالة انتقام ونزوح ، حالات جوع يتبعها حالات سرقة ، حالات اهانة يتبعها إهانات مضادة ، وهكذا كل التفاصيل لن تقودنا إلى «أصل الحكاية « ومن هنا أعلن وأوكد أن الشيطان قد غادر التفاصيل منذ فترة طويلة وتركنا هناك نبحث عنه ونبذل الوقت والجهد فى محاولة تتبعه ، لكنه الآن يكون العناوين الكبيرة ويسكن فى مفرداتها الرئيسية ، إذا أردت ان تبحث عن الشيطان فعليك بالفكرة وليس التفصيلة ، عليك بالعنوان الكبير وليس أدوات التنصيص وعلامات الترقيم ، ارتق وافتح عقلك قبل عينك ربما شاهدت هذا الشيطان الماكر فى مكان لم تكن تتخيله وفى عنوان لم يتصوره عقلك ، وعلى سبيل المثال ، تعرضت مصر لازمة اقتصادية طاحنة أدت الى ارتفاع الأسعار.
جميعنا ذهب الى التفاصيل « سعر السكّر والأرز والبامية « ثم وزارة التموين وحماية المستهلك والاحتكار وحبس السلع ، ثم انتقلنا الى سعر الدولار وسعر الفائدة والاستثمار ، ومن كل هذا الى آراء وتعليقات بعض رجال الأعمال وندخل فى اشتباك مع البعض ، وتبدأ البرامج الحوارية فى التناول والتداول، الفجوة التمويلية كانت تتزايد المؤسسات الدولية تعاند الشركاء الإقليميين أصيبوا بحالة سكتة مؤقتة ، ماذا يحدث ؟ لا أحد يعرف على وجه الدقة ، الشيطان لم يكن موجودا فى تلك التفاصيل لكنه كان متسيدا فى العنوان الكبير.
« الضغط على الدولة المصرية « وإيقاف مشروعها الوطنى ، وإجبارها على قبول ما يمس امنها القومى ، هذا هو الهدف والعنوان الكبير الذى لم ينتبه اليه الكثيرون.