لا أريد لشهر مايو الحالى أن يمضي، قبل أن أكتب عن مناسبة احتفت بها الدولة والحكومة قبل أسبوعين، وهى مرور عشر سنوات على انطلاق أكبر مظلة حماية اجتماعية لفقراء مصر، وهى معاش «تكافل وكرامة»، الذى يٌعد مع مشروع «حياة كريمة» عنوانا لمحاولة تحقيق قدر من العدالة الاجتماعية يساعد على استقرار المجتمع.
تحتاج الكتابة فى هذا الموضوع إلى عرض للإطار العام له للتعريف به وبحجمه وتطوراته قبل الدخول فى مناقشة أبعاده.. ما له وما عليه.
ومن واقع الأرقام والكلمات الرسمية التى أذيعت ونشرت خلال أيام الاحتفال، على لسان رئيس الوزراء ووزيرة التضامن الاجتماعى وبقية المسئولين ذوى الصلة، فإن معاش «تكافل وكرامة» يضم عشر «حزم» أو مجموعات من الخدمات الاجتماعية، تستفيد بها عشر «فئات» من المواطنين.
وقد بدأ تطبيق المعاش عام 4102-5102 على مليون وسبعمائة وتسعين ألف أسرة، بتكلفة خمسة مليارات جنيه، وامتد فى عامه العاشر ـ الحالى إلى أربعة ملايين وسبعمائة ألف أسرة بتكلفة واحد وأربعين مليار جنيه.
وفى موازنة العام المالى الجديد التى تبدأ أول يوليو القادم، ويبدأ بها معاش «تكافل وكرامة» عشريته الثانية ترتفع تكلفته إلى خمسة وخمسين مليار جنيه، أى (11) مثل تكلفته فى بداية عشريته الأولى وهى خمسة مليارات.
وقد استفاد من هذا المعاش خلال سنواته العشر سبعة ملايين وسبعمائة ألف أسرة، هم إجمالى من حصلوا عليه.
ووفقا لما ورد على لسان رئيس الوزراء، فإن «تكافل وكرامة» يعد واحداً فقط من اثنين وعشرين برنامجاً للحماية الاجتماعية بإجمالى تكلفة ستمائة وخمسة وثلاثين مليار جنيه.
هذا هو ـ باختصار شديد ـ الإطار العام لـ «تكافل وكرامة»، وهو فى مجمله ـ كما ذكرت فى البداية يمثل أكبر مظلة حماية اجتماعية لفقراء مصر، وأضيف أنه يمثل ـ أيضا ـ دعماً محفزاً للأسر التى لديها أبناء فى التعليم، حيث يرتبط صرفه باستمرارهم فى التعليم، كما يعد دعماً محفزاً للأسر التى لديها أبناء فى سن العمل ويمكن ضمهم إلى القوى العاملة المنتجة.
لكن تبقى عدة ملاحظات أرجو الانتباه إليها.
الملاحظة الأولى والأساسية هنا، هى أن كل مظاهر وفعاليات الاحتفال، ركزت على محاولة ترسيخ مفهوم لدى الرأى العام مؤداه، أن الزيادة المطردة فى أعداد المستفيدين من المعاش خلال السنوات العشر المنتهية، والتى وصلت فى إجماليها إلى سبعة ملايين وسبعمائة ألف أسرة، وزيادة التكلفة أيضا هى «الانجاز الكبير» الذى يستحق أن يكون عنوانا لهذا الاحتفال، من منطلق أن هذه الأرقام تعبر، من ناحية، عن مدى اهتمام الدولة بفقرائها، ومن ناحية أخري، عن إرادتها وقدرتها ـ عملياً ـ على توفير حياة كريمة ـ ولو نسبيا ـ لهم، من خلال توفير هذه المظلة للحماية الاجتماعية.
هذه ـ فى الحقيقة ـ رسالة خاطئة، تقدم مفهوما يكاد يكون سلبيا، للإنجاز الكبير.
ذلك أنه يصور الدولة أو الحكومة، وكأن كل مسئوليتها أن تجلس عند خط الفقر، بمظلة الحماية الاجتماعية تنتظر من يتساقطون من الفئات والطبقات التى فوقه، سواء بفعل تأثيرات أزمات اقتصادية عالمية أو سياسيات اقتصادية واجتماعية محلية، لتستدركهم بمعاش تكافل وكرامة.
وهذا غير صحيح، ولا ينبغى أن يحدث ـ أن نعتبره إنجازاً.
إن مسئولية أى حكومة، فى أى مجتمع، فى مثل هذا السياق، تبدأ أولاً من المنبع قبل أن تصل إلى المصب.
أى تتخذ كل السياسات والإجراءات الممكنة التى توفر الحماية والحياة الكريمة لمن هم فوق خط الفقر لتمنع سقوطهم أصلاً إلى ما دونه.. وكلما نجحت فى تقليل، وليس زيادة أعداد المنضمين إلى مظلة الحماية الاجتماعية أو المحتاجين إليها، كان هذا هو الإنجاز الكبير الحقيقي.
إن استعراض التطور الرقمى لأعداد المنضمين لمعاش تكافل وكرامة يشير إلى أنه قفز فى عامه الثانى من مليون وسبعمائة وتسعين ألف أسرة فى بدايته إلى مليونين وأربعمائة وخمسين ألفا، ثم قفز العدد فى العام الثالث بما يقارب مليون أسرة زيادة حيث وصل إلى ثلاثة ملايين وأربعمائة وأربعين ألف أسرة، ليستقر عند رقم الثلاثة ملايين طوال الخمس سنوات التالية مع تفاوت فى الكسور، ثم يصل إلى الأربعة ملايين فى عامه الثامن (1202-2202) ويستقر عندها حتى العام الحالى مع تفاوت فى الكسور أيضا.
وتعكس الأرقام أن التطور بالزيادة فى أعداد الأسر المنضمة للمعاش تم خلال السنوات العشر بمعدل متوسط أربعمائة ألف أسرة.
فمن أين جاءت هذه الزيادة التى لم تختف من الجدول سوى فى عامين فقط حيث جاءت الأرقام بالسالب وهما عام (8102-9102) وعام (3202-4202)؟!
هل كانت هذه الأسر موجودة عند بداية حصر المستحقين للمعاش منذ بدايته ولم يشملها الحصر؟!
أم هى وافد جديد إلى ساحة الحماية الاجتماعية من آثار الأزمات العالمية أو من ضحايا الإصلاح الاقتصادي؟
أم هى زيادة طبيعية تتواكب مع الزيادة السنوية فى تعداد السكان؟!
هل لدينا البيانات التى تجيب عن هذه الأسئلة وتكشف لنا سبب تواجد هذه الأسر فى خط الفقر حتى يمكن تكثيف الجهود لمواجهتها من المنبع؟!
لابد أن تشرح الحكومة هذا حتى تظهر أهمية البرنامج.
وهنا ينبغى الإشارة إلى مصدر رابع محتمل لهذه الزيادة، وهو أن تكون نسبة منها من غير المستحقين للمعاش وهو احتمال قائم وحادث بالفعل وتم اكتشافه فى غير مرة، ومرتبط بكل المجالات التى تقدم فيها الدولة دعما نقديا أو عينيا لمواطنيها، كما ثبت فى مجال التموين وجرت عملية تنقية بطاقات الدعم التموينى لاستبعاد غير المستحقين.
المهم أن تتوافر لدينا كل هذه البيانات، وأن توضع أمام صانع السياسات والقرارات الاقتصادية للاسترشاد بها.
الملاحظة الثانية، وهى ما أثار دهشتي، هى أن برنامج تكافل وكرامة فيه جانب مضيء يمثل ـ فى رأيى الإنجاز الكبير الحقيقى للدولة والحكومة ولا أحد يتابعه، ولم يرد له ذكر فى فعاليات الاحتفال، سوى على استحياء، وفى جملة واحدة من كلمة وزيرة التضامن الاجتماعي.
هذه الملاحظة هى أن البرنامج، كما له «مدخلات» فإن له «مخرجات» أيضا.
لا تتسرع وتظن أنه لا توجد له مخرجات سوى إلى القبر.. فالحقيقة إن مخرجاته هى إلى الحياة والحياة الأفضل.
تقول وزيرة التضامن الاجتماعي، إن البرنامج خدم فى العشر سنوات سبعة ملايين وسبعمائة ألف أسرة، «تخارج» منها ثلاثة ملايين أسرة نتيجة «تحسن وضعهم الاقتصادي، وخروجهم من دائرة العوز».
أليس هذا ما يستحق أن نحتفل به، وأن تقدمه الحكومة للشعب، وأن تتيح للإعلام بكل منصاته التعرف عليه وتعريف المجتمع به من خلال نماذج من هذه الأسر، وكيف نجحت من خلال «تكافل وكرامة» فى العودة إلى ما فوق خط الفقر؟!