لم أكن فكنت، لم أكن أتخيل يوما وانا فى سنوات الصبا وعنفوان الرومانسية السياسية أن تكون صناعة الفكر والثقافة والإعلام فى العالم على ما هى عليه الآن، لكننى وبعد أن اشتعل الرأس شيبا وارتطمت أحلامنا بأرض الواقع الصخرية فتحطمت وتناثرت وصارت كما قارورة العطر المكسورة، تشتم رائحة أحلامك من بين ثنايا بقايا الزجاج المهشم ، كنت أقرأ كتباً ومقالات كبار المفكرين والأدباء والمثقفين وأتابع مذكرات ووثائق الساسة، عشت فترة طويلة أقرأ لزوربا وجبران والعقاد وخالد محمد خالد ونجيب محفوظ وطه حسين.
>>>
كنت أقرأ لهم وأقوم بالإسقاطات الغبية على الواقع الذى اعيشة، كنت استملح انكار الواقع رغم أننى منغمس فى تفاصيله، شىء غريب حقا ان تحلق بأحلامك فوق السحب والغيوم حيث عنان السماء، وفى نفس الوقت يكون واقعك يمر من بين انياب التحديات ! مع مرور سنى العمر وصولا إلى محطات أكثر عمرانا يسكنها بعض اصحاب التجارب والخبرات ، قالوا لنا وقد كذبوا علينا حينئذ، ان الحرية والديمقراطية وصناعة الإعلام الحقيقية هناك حول الأطلنطى فى امريكا وغرب اوروبا ، اقسموا لنا ان حرية الرأى والتعبير فى الدول المتقدمة مقدسة قداسة الكتب والأديان الأكثر قداسة.
>>>
قالوا لنا وقد خدعونا ان منابع الخبر الصحيح المجرد والتحليلات الموضوعية المحايدة هناك وعلينا ان نتلمس طريقهم ونسير على خطاهم، لقد زعموا زورا وبهتانا ان هناك صناعة اسمها صناعة الإعلام والصحافة تعمل فقط لمصلحة القارئ والمشاهد دون أية إملاءات من اى صاحب مصلحة، اخبرونا كذبا بأن لا احد هناك فوق الحقيقة ولا احد ينازع الحق، وان رئيس التحرير اهم من مالك الصحيفة، خدعونا وخدعنا وقسونا على انفسنا وفقدنا ثقتنا فى أقلامنا وإعلامنا وظننا بأنفسنا ظن السوء.
>>>
كانت هيئة الإذاعة البريطانية ووكالات الأنباء الشهيرة أسوشيتد برس ورويترز وغيرهما ينشرون ويذيعون ما كنا نظن انه الحقيقة مجردة عارية وليس وراءها هدف او غرض، وبعد ان وصلنا محطة الوعى والفهم وفتحنا أعيننا وعقولنا على ما يدور حولنا، وجدنا هؤلاء وهؤلاء يمارسون الأكاذيب المنمقة فى مستنقع الوهم المهنى والصناعة التى كنا نظن انها صناعة حقيقية تخضع لقواعد محترمة، اليوم وجدنا الحقيقة تطاردنا علّنا نفهم كيف يدور العالم من حولنا وكيف كان الإعلام والصحافة احد اهم أدوات تزييف الحقائق.
>>>
خدمة لأصحاب المصالح الذين ينفقون أموالهم من اجل مصالحهم اشخاصا كانوا او دولا او منظمات، شاهدنا كيف يطرد صحفى ومذيع شهير من البيت الأبيض ويتم تهديده بالويل والثبور وعلى الهواء مباشرة، شاهدنا تنكيلا وفصلا تعسفيا لكل من انحاز للحقيقة اياً كانت، اكتشفنا متأخرا انه لا توجد صناعة إعلام لديهم بالمعنى الذى كنا نظنه، لكننا كنا من الحماقة ان صدقنا ما قالوه لنا وسوقوه علينا، هاجمنا مؤسساتنا وحطمنا أحلامنا المهنية ونحن ننتظر ان نكون مثلهم ! والحقيقة ان إعلامنا وصحافتنا وقوتنا الناعمة حقيقية وليست مزيفة، كما ان ايمان الدولة والمجتمع بهذه الصناعة واهميتها ايمان حقيقى أيضا.
>>>
اقسم لكم ان مساحة الحرية الممنوحة لوسائل إعلامنا يزيد سقفها يقينا على ما نراه فى الغرب وأمريكا من فجاجة ورعونة وتهديد لكل من يسأل او يتساءل وقد راينا جميعا ما جرى فى البيت الأبيض، لكننا لم نر ان صناعة الميديا عموما صناعة أتلفها الهوي.