مضت مائة يوم على تولى دونالد ترامب مقاليد الحكم فى الولايات المتحدة الامريكية، وإذا كانت هذه الفترة لا تكفى لتقييم تجربة رئاسية متكاملة، فإنها تُعدّ نافذة كاشفة عن اتجاهات الحكم وأسلوبه، خاصة حين يتعلق الأمر برئيس أتى من خارج المؤسسة التقليدية، مُحمّلاً بخطاب صدامي، وطموحات جامحة لتفكيك ما يعتبره نظاماً متقادماً يُقيد «عظمة أمريكا».
منذ اليوم الأول، بدا أن ترامب لا يسعى إلى الإصلاح فى حدود الممكن، بل إلى إعادة هندسة الدولة نفسها، بتوازناتها الداخلية ومفاهيمها الخارجية، بدءاً من مواجهة «الدولة العميقة» كما يراها، مروراً بإعادة تعريف مفهوم الحلم الأمريكي، وصولاً إلى قلب معادلات العلاقات الدولية. كانت مقاربته للرئاسة قائمة على فرض الصدمة، سواء عبر القرارات التنفيذية المثيرة للجدل أو من خلال الخطاب الإعلامي، غير أن السؤال الجوهرى بعد مرور هذه الفترة القصيرة لكن الكثيفة هو: هل تحقق التغيير؟ وإذا تحقق، فهل هو تغيير مستدام أم مجرد جلبة سياسية؟
فى الاقتصاد، رفع ترامب سقف التوقعات سريعاً، متعهداً بنمو غير مسبوق، وسيطرة على التضخم، ونهضة فى قطاع الطاقة. لكن ما حصل أن الإجراءات الحمائية، ومنها رفع التعريفات الجمركية، أطلقت موجة ارتدادية داخل السوق الأمريكية، وأجبرت الإدارة على التراجع عن بعض مقارباتها الصلبة. هذا التراجع لم يكن اعترافاً بالفشل، بل تأقلماً اضطرارياً مع واقع اقتصادى لا يخضع بسهولة لمنطق الصفقات.
أما فى السياسة الداخلية، فقد شهدنا محاولة منظمة لاقتلاع بعض القيم الليبرالية التى شكّلت الهوية الأمريكية المعاصرة، كالهجرة والتعددية الثقافية، وما يُعرف بـ»الاستثناء الأمريكي». بدا أن الرئيس لا يرى فى هذه القيم مصدر قوة، بل نقاط ضعف يجب التخلص منها، حتى وإن تعارضت مع الدستور أو أعراف العمل السياسي.
فى السياسة الخارجية، حاول ترامب صياغة دور أمريكا وفق قاعدة: «منفعة مباشرة أو انسحاب محسوب». لقد تراجع عن أدوات «القوة الناعمة» التى لطالما شكّلت ركيزة للنفوذ الأمريكي، واختار بدلاً منها لغة العقوبات والضغط الاقتصادى والتهديد العسكري. لم يعد دعم الحلفاء مشروطاً بالقيم أو التحالفات التاريخية، بل أصبح صفقة تُقاس بالكلفة والعائد.
وفى قضايا أكثر حساسية مثل الصراع الفلسطينى – الإسرائيلي، برزت مؤشرات مثيرة للقلق، مع مقاربات تتجاهل العدالة والحقوق الأساسية، كما فى حديث بعض الدوائر القريبة من ترامب عن «تملك قطاع غزة» أو مقترحات تثير الذعر حول مستقبل قناة بنما، وكأننا أمام عقلية استعمارية معولمة بوجه جديد.
مع ذلك، فإن التحديات الميدانية من غزة إلى أوكرانيا أظهرت حدود سياسة الصدمة. ففى حين فشل ترامب فى تقديم حل عملى للحرب على غزة، بدأ يميل إلى الواقعية فى أوكرانيا، حيث ظهرت صفقة الموارد النادرة كعنصر قد يسهم فى التهدئة، لا لاعتبارات إنسانية، بل لأن المصالح الأمريكية المباشرة باتت جزءاً من المعادلة.
فى المجمل، يمكن القول إن ترامب لم يُخفق، لكنه لم ينجح وفق المعايير التقليدية أيضاً. لقد فرض تغييراً فى الخطاب، وفى أدوات الحكم، وفتح شهية الطبقة السياسية على إعادة النظر فى مفاهيم كانت حتى وقت قريب من المُسلّمات. لكن هذه البداية المثيرة ما زالت تفتقر إلى مؤسسات حقيقية تسندها، وإلى رؤية مستدامة تتجاوز الشعبوية. وما لم تُترجم هذه الرؤية إلى نتائج عادلة ومتوازنة داخلياً وخارجياً، فإن ما نعيشه قد يكون مجرد جولة فى لعبة كبري، لم يُكتب فوز أحد فيها بعد.