ليس أقسى على النفس من نعى صديق أو عزيز، تأبى الكلمات أن تخرج من القلم أو اللسان، لا يكاد المرء يصدق أن شخصا ملء السمع والبصر قد غادر دنيانا إلى دار الحق بغير رجعة وسبقنا إلى الآخرة، ملبيا نداء ربه.
صحيح أن الموت هو الحقيقة الوحيدة فى الحياة، وأنه نهاية كل حي، نؤمن بذلك يقينا دون أدنى شك، إلا أنه عندما يغادرنا أحد ممن نعرف إلى الدار الآخرة نكون كأننا فوجئنا بالأمر، حتى وإن كان هناك الكثير من المقدمات التى تشير إلى قرب النهاية من مرض عضال أو داء لا يرجى برؤه.
هذا الأسبوع، رحل عن دنيانا الفارس النبيل الكاتب الصحفى الكبير محمد أبوكريشة مدير تحرير الجمهورية، ملبيا نداء ربه، بعد معاناة حياتية ومرضية، قابلها بالرضا وعايشها دون شكوي، وتعايش معها كما كان على طبيعته، مؤمنا بأن الابتلاء من سنن الحياة، فقد كان واحدا من ضحايا فيروس كورونا، وحتى بعد شفائه منه ترك عليه آثاره على مدى سنوات طوال وعانى منه حتى اللحظات الأخيرة فى حياته العامرة.
محمد أبوكريشة.. ليس مجرد شخص تقابله فى الحياة أو تتعامل معه، بل نموذج نادرا ما يتكرر، لا تملك إلا أن تحبه وتحترمه، وتتعلق به، يترك أثره فى النفس من مجرد أول لقاء، اجتماعى حتى النخاع، حكاء متمكن، مثقف على مستوى عال، ممزوج بالتراث والقيم الأصيلة، دائما يتذكر الأصول والجذور، بدءا من العائلة مرورا بالوطن المصرى ووصولا إلى الوطن العربي، فقد كان عروبيا معجونا بالأرض والتاريخ والجغرافيا، غيورا على أمته، تجد ذكراه وبصماته فى كل مكان حلت فيه قدماه، من مصر إلى قطر ودولة الإمارات، مفرداته اليومية تعيدك إلى الأزمان الغابرة والتقاليد الأصيلة، والعادات السامية، مع الحداثة الراقية دون التقليعات المستجدة.
وصفه أخونا مؤمن ماجد مدير تحرير الجمهورية من قبل بكلمات موجزة لكنها بليغة، قال إنه «إنسان متصالح مع نفسه»، وبالطبع هذا الوصف ترجمة لشخصية أبوكريشة التى تتميز وكأنها مغناطيس بشرى جذاب، يؤثرك ويجعلك ترتبط به مهما كان مستوى العلاقة بينكما.
أبوكريشة الصحفي، كان ظاهرة غير مسبوقة منذ بدايته فى بلاط صاحبة الجلالة، بدأ على عكس الكثيرين، فالمعتاد أن يبدأ الصحفى محررا او مندوبا، ثم يترقى حتى قمة الهرم الصحفي، لكنه بدأ كبيرا من سلم الديسك المركزي، ولم يفكر يوما ولا لحظة فى منصب ويعتبر ذلك مجرد مسمي، لكن المناصب هى التى سعت إليه، وأضاف إليها ولم تضف إليه أو تغير منه، دائما يعتز بأنه كاتب صحفي، لا بمنصب كذا أو كذا مما تبوأه فى أى موقع.
أما عن تعامله مع كل الأجيال فقد كان معلما للجميع، لا يبخل بخبراته، فلأنه متمكن من قدراته وأدواته وواثق من إمكاناته، لا يخشى أن يتفوق أحد من تلاميذه، لأنه فى النهاية لن يصل إلى قامته المهنية، وهو المشهود له بأنه «أستاذ» فى الصياغة و»معلم» فى العناوين الجذابة القوية، بخطه المتميز الذى يضاهى الخطوط الفنية للمحترفين، بل من العجب أنك لا تجده – كما يفعل الكثيرون منا– يشطب كلمة أو يمزق ورقة أو يعيد جملة، وفى مقالاته، أفكاره دائما حاضرة، تسيل وتنساب بعبارات رقراقة، مفعمة بالدفء، ثرية بالمعلومات، بأسلوب رصين، من مستوى الكبار، مع تواضع القمم وبساطة القامات.
الكلمات مهما كثرت، تعجز عن وصف مناقب أبوكريشة، ولا تستطيع التعبير عن مميزاته، فتلك مجرد محاولة متواضعة عن قليل من كثير مما نعرف عن العزيز الراحل، تغمده الله بواسع رحمته ورضوانه وجمعنا به فى مستقر رحمته.