تضيع أعمارنا ونحن نبحث عن المعارف والثقافات والعلوم المختلفة، ويظن الكثيرون أن المعرفة غاية فى حد ذاتها، لكن الحقيقة أنها فقط وسيلة للفهم والوعى الذى يظنه البعض أيضا غاية المنى ونهاية الطريق لكن الواقع يؤكد أن ذلك الفهم وذاك الوعى ليس هدفا فى حد ذاته وإنما أداة أساسية لقيادة التغيير – تغيير الواقع والقضاء على التشوهات الثقافية – فما أكثرهم أولئك العارفين النابهين المنتبهين وما أقل هؤلاء السالكين العاملين، فالمعلومات لا تعنى المعرفة والمعرفة لا تعنى الفهم والفهم وحده لا يكفى لتغيير الواقع، فكل ما سبق ذكره عن المعلومات والمعارف وما يجب أن يتبعهما من حالة الفهم هى أمور ضرورية لكنها غير كافية دون تحويل هذا الفهم إلى خطط وبرامج قادرة على تغيير ما يراد تغييره فى مجتمع ما، ففى مصر الجميع يعلم ويعرف ويفهم الآثار المدمرة للأمية والانفجار السكانى والإدمان والبناء على أرض زراعية والروتين والرشوة والفساد والمحسوبية على سبيل المثال لكن السؤال الأهم والذى يجب أن نحاول الإجابة عليه بأمانة ودون مواراة، من من هؤلاء «الجميع العارفين» قادر على التحرك فى المسار الصحيح الذى يؤدى إلى التغلب على هذه «المدمرات المذكورة»؟ بيد أن قضايا الأمة المصرية التى يعلمها ويعرفها القاصى والدانى معروفة ومعلنة منذ عقود مضت وكذلك حلول تلك القضايا معروفة ومعلنة أيضا! لكن السؤال الذى كان محيرا للمراقبين والباحثين هو طالما كانت المشكلة معروفة وحلولها مطروحة فلماذا لا نشرع فى تطبيق وتنفيذ تلك الحلول التى بين أيادينا؟ القضية هنا ليست فلسفية ولا تعد معادلة رياضية معقدة عن علوم الصواريخ، القضية أبسط من ذلك بكثير وفهمها يحتاج إلى تجرد وموضوعية، القضية هى الإرادة السياسية التى تستطيع استنهاض همم المجتمع الخاملة وتعبئة الموارد المتاحة والتحرك بقوة فى مسالك وطرق مبتكرة وبالتأكيد ستكون شديدة الوعورة، أمام أعيننا تجارب عديدة استطاعت فيها الدولة التحرك فى مسارات مبتكرة وانجزت فى وقت قياسى ما كان مطروحا فى الكتب كأحلام وطموحات، لن أعدد هنا ما جرى وما تم، لكننى أبحث عن نقطة مفقودة لو وضعناها على حروف الحقيقة لاتضحت وبانت كما شمس أغسطس، ألاحظ الكثيرين من العارفين يقفون فقط عند حدود المعرفة ولا يتجاوزون خطوط الفهم مخافة من الوقوع فى مربع مسئولية التطبيق، وهناك من يعرف ويفهم السياق والمسار لكنه غير قادر على تحمل المسئولية لتحويل هذا الفهم إلى برامج وخطط، وهناك من يتحدث كواحد من العارفين السالكين لكنه لا يخدم السياق والمسار بل على العكس تماما تجده يخدم أعداء مناوئى هذا المسار، هو كالدب الذى يحب بغباء ويكره برومانسية، ربما اختلط على البعض الحابل بالنابل وصارت الأمور «حيْص بيْص» وما عاد هؤلاء يعرفون موطأ اقدامهم عن موضع رءوسهم، أقول لنفسى وهؤلاء عليك فقط بعصيان الهوى ومخالفة النزعات الشخصية وتلمس طريق التجرد والموضوعية والإخلاص وعدم وضع شخصك واسمك فى المعادلة، اخدم ما تؤمن به من أفكار وثوابت بإخلاص ولا تنظر خلفك فيما يقوله الناس، فالناس ليس لديهم ما يرضيك، وما يرضيك لن تجده إلا عند من خلق الناس، وسبحان من يرضى العباد.