الدنيا من غير ربيع ميتة.. ورق شجر ضعفانة ومفتفتة.. لا يا جدع غلطان وشوف.. زهر الشتا طالع فى عز الشتا.. فهل تصدق أن المبدع الذى يساوى وزن جسده الضخم هو منبع التفاؤل وارتبط اسمه بالربيع والجو البديع على لسان «سوسو» سعاد حسنى فى الفيلم الشهير «خلى بالك من زوزو» الذى ضرب الأرقام القياسية فى الإيرادات، وجاء فى المركز 79 ضمن أفلام السينما المصرية فى تاريخها، وذلك فى الاستفتاء الذى جرى بين النقاد وأهل الفن عام 1996.. رغم بساطة موضوعه وخاصة أنه يحاول تجميل كار العوالم.. والمخرج الكبير حسن الإمام أخذ عهداً على نفسه بأن يتبنى وجهة نظر تقول إن الراقصة مهما كان الرأى فى عملها هى إنسانة ومواطنة..
صلاح جاهين الذى كتب الفيلم وأغانيه حوله إلى قطعة من البهجة وناقش من خلال نعيمة ألماظية «تحية كاريوكا» مسألة الفوارق الطبقية الاجتماعية وقد عرض الفيلم بعد 20 سنة من ثورة 1952.. وفى ذلك قدمت السينما مجموعة من الأعمال أبرزها «الأيدى الناعمة»، «رد قلبي»، «القاهرة 30»، وسعاد هى التى رشحت جاهين رسام الكاريكاتير والشاعر والصحفى والممثل لكى يقتحم عالم السيناريو والتأليف وقدما سويا مجموعة من الأفلام والمسلسلات: شفيقة ومتولى المتوحشة، أميرة حبى أنا، مسلسل «هو وهي».
«صو» اسم دلع صلاح جاهين و»سو» يخص سعاد حسني، جمعتهما الصداقة.. وغيرت مسار الثنائي.. وهناك من بينهم جاهين بأنه لعب فى دماغ سعاد وأفسد تلقائيتها وبساطتها وشحن رأسها بالسياسة وأخذ بيدها إلى دنيا الثقافة والكتب.. وهناك من رأى العكس وفى كل الأحوال ظلت هى النجمة الأولى وان تعرضت أواخر أيامها إلى مصاعب لا أول لها ولا آخر.. وتحقق فيها قول جاهين نفسه فى واحدة من رباعياته الشهيرة:
دخل الربيع يدخل لقانى حزين
نده على اسمى لم قلت مين
حط الربيع زهور جنب منى وراح
وإيه يعمل الورد للميتين؟!
مول عبقريات
فى كل ما قدم جاهين كان عاشقاً لمصر.. وآمن بثورة يوليو 1952 فهو صاحب صورة كلنا كده عايزين صورة، إحنا الشعب، بالأحضان يا بلادنا يا حلوة بالأحضان، يا أهلاً بالمعارك ويا بخت مين يشارك.. وهو نفسه من حذرت سعاد حسنى على لسانه: يا تجيب لى شيكولاتة يا بلاش يا وله.. وكان كمال الطويل الذى شاركه فى الابداع الوطنى هو من استثمر كنوز جاهين العاطفية وغنت نجاة الصغيرة:
بان عليا حبه.. من أول ما بان
ياما كنت أتمنى حبه من زمان
ده عيون الحليوة يا عيني
بحر من الحنان
وميزته الكبرى التى قد يغفل عنها البعض تلك البساطة التى يتخذ منها منهجًا يقدم من خلالها كل ما يريد دون تكلف أو تصنع أو فذلكة.
يا أمى يا مامتى يا ماماتي
صباح الخير يا مولاتي
ولأنه ابن الناس والحارة والصحافة زرعت فيه أن تكون عينه دائماً وأبداً على أهل البلد حتى فى الحب.
أنا هنا هنا يا ابن الحلال
لا عايزه جاه ولا عايزه مال
باحلم بعش
أملاه أنا
سعد وهنا
أنا هنا هنا يا ابن حلال
حتى إذا وصل إلى محطة سيد مكاوى كانت الليلة الكبيرة.. فإذا هناك من يسمعون عن الموالد التى تحتفل بالسيدة زينب وسيدنا الحسين والسيدة عائشة ونفيسة ولم يحضرها.. فإن جاهين جعل الموالد «ديلفري» تصل إلى كل واحد فى بيته من خلال العرائس والمخرج صلاح السقا «والد أحمد السقا» وخبير العرائس.
والليلة الكبيرة يا عمي
والعالم كتيرة
ماليين الشوارع يابا
فى الليلة الكبيرة
وهو نفسه الذى غنى محمد منير للبنت التلميذة الحلوة:
يا بنت يا أم المريلة كحلي
يا شمس هلة هلة وطلة من الكولة
أنا قلت عنك فى الغزل قولة
ممنوع عليا ولا مسموح لي
وحذر من ارتباط البنت بالشاب الناعم الذى يهتم بمظهره.. دون أن تكون له مواقف ايجابية.. وسوف يظهر على حقيقته ولو بعد حين.
جربنا الحلو المتعايق
أبو دم خفيف
وبقينا معاه
اخوه شقايق
فاكرينه شريف
اتاريه مش كده على طول الخط
الطبع الردى من جواه نط
خلاص بقى مهما انشال وانحط
مافيش دمعة حزن عشانه
بانوا بانوا
على أصلكم بانوا
وعندما وصل إلى محطة محمد رشدى ملك الشعبيات كان معه على نفس الموجة:
آه بعد آه بعد آه
على قلبى واللى رآه
من يوم ما فت الحبايب
غريب بلاد الله
وحمام الغية يا مروح بلاد النيل
أمانة عليك سلملى على الزغاليل
وزيد فى سلامي
على الحلوة أم رمش كحيل
حبيبتى يا حمام بني
بعادى عنها جنني
أمانة تقول لها إني
باخد المهر.. شهر بشهر
وبالشبكة فى المنديل
وسلم لي..
فهل مرت عليك هذه الصورة مرور الكرام.. على ذلك الشاب الذى يجمع القرش على القرش فى «الصرة» لكى يوفر المهر لأجل الارتباط بالحبيبة.
الا يجعلنا هذا دون مبالغة أن نقول إن جاهين كتلة من المشاعر الفياضة فى الكاريكاتير فى التمثيل فى العاطفي.. فى الوطنى فى لعب العيال.. وكأننا أمام طفل كبير توفرت له من خبرات الحياة ما يجعله يفرزها فناً خالصاً سائغاً للمشاهدين.. إنه يبسط كل شيء ويختصر كل شيء.. ويفلسف كل شيء.. حتى إذا نظرنا إلى رباعيته ستجد خلف منها ذلك الفيلسوف الذى أضحك الملايين وهو يبكى من الألم:
أنا شاب لكن عمرى ألف عام
وحيد ولكن بين الضلوع زحام
يأسك وصبرك بين ايديك
وأنت حر
تيأس ما تيأس الحياة راح تمر
وخلف كل كلمة كتبها أو رسمة خطها بيده تستطيع أن تجد صلاح بشحمه ولحمه.. ورغم أنه عانى الأمرين من وزنه الثقيل.. لكن كتاباته خرجت فى منتهى الرشاقة ألم نقل إنه جمع كل التناقضات فى شخصه.. حتى وهو يسأل حبيبته السؤال التقليدي: أجيب لك إيه وأنا جاي.. وتكون الإجابة:
هاتلى مخدة أحط عليها راسى وأنام
هاتلى قلب يزعل بس يصفى قوام
هاتلى ساعة راحة بال
وحبة فرح ولو بريال
وهات أقفال أقفل بيها باب الحزن
وهات م الحب مليون حضن
وهات معاك شوية صبر
وهات للخواطر جبر
هاتلى أمان وضحكة طالعة باطمئنان
جاهين الذى تحول إلى مدرسة كان من الصعب تقليدها لا فى الكاريكاتير أو الشعر أو حتى فى فلسفة الحياة:
وفى يوم صحيت شاعر براحة وصفا
الهم زال والحزن راح واختفي
خدنى العجب وسألت روحى سؤال
أنا مت؟ ولا وصلت للفلسفة
وعجبي!!