نجح قراء القرآن الكريم فى مصر فى ترسيخ وتأسيس واحدة من أهم القوى الناعمة للعالم الاسلامى وهى قوة فرضت نفسها على الساحة حتى أصبحت رقماً مهماً ومطلبا للجميع سواء على المستوى الشعبى أو حتى الدبلوماسى بين الدول المختلفة مسلمة كانت أو غير لتحقيق مزيد من التقارب.
هذه القوة الناعمة ترتكز على الخصائص والمميزات والعلامات الفارقة لمدرسة التلاوة المصرية والتى وضعتها فى مصاف عليا لم يستطع أحد أن يجاريها أو يصل إلى مرتبتها مهما بذل من جهود على مر الزمان..
طبيعى أن يطرح البعض تساؤلات مهمة على هذا الصعيد فى مقدمتها كيف استطاع القراء المصريون أن ينحتوا لنفسهم هذه المكانة وما الذى ساعدهم على ذلك؟
الإجابة يمكن تركيز أهم ملامحها فى العناصر الاتية:
الدقة الشديدة فى أحكام التجويد والالتزام بها والابداع فيها.. ومراعاة مقادير المد والغن والمساواة بين النظائر وإحكام مخارج الحروف واستيفاء ما لكل حرف من صفات كالجهر والهمس والشدة والرخاوة والاستعلاء والاستفال والانفتاح..
يقول الخبراء إن هذه الدقة قد أكسبت دولة التلاوة المصرية وقراءها ثقة كبيرة وأصبح علماء القراءات المصريون خلال القرنين الماضيين المرجع الأول لبلاد الإسلام فى كتابة المصاحف وضبطها وموافقة رسمها لقراءة البلد الذى تنتمى إليه وفى العقود الأولى من القرن العشرين كانت بعض البلاد العربية تراجع مصاحفها بمطابقتها بالنسخة التى اعتمدها لهم علامة القراءات الشيخ على محمد الضباع الذى بلغ فى فنه وتأليفه مبلغا صار به قبلة ومقصدا لطلاب هذا العلم من كل مكان بعد أن انتهت إليه رئاسة الإقراء فى الديار المصرية وبلاد العرب جميعاً..
الثاني: ان القراء المصريين كانوا على وعى تام بحقيقة وكنه معنى الاعجاز التأثيرى للقرآن الكريم وهى مسألة مهمة للغاية تستبطن وتتفاعل مع كل عوالم القرآن الكريم الظاهرة والخفية على السواء.. والاعجاز التأثيرى هو أحد وجوه الإعجازات الكثيرة المشهورة عن القرآن الكريم يتمثل فيما يتركه القرآن من أثر ظاهر أو باطن على سامعه أو قارئه ولا يستطيع هذا السامع أو القارئ مقاومته ودفعه ولا يقتصر ذلك على المؤمنين به. وبعبارة أخري: هو تأثير القرآن الكريم فى النفس الإنسانية عندما تسمعه وتفاعلها معه حتى لو كانت نفساً غير مؤمنة.
والاعجاز التأثيرى للقرآن قضية محسومة ومحققة منذ الايام الاولى للبعثة المحمدية ولم يتوقف التأثير على المؤمنين فقط بل كان تأثيره أشد على الكافرين.. وقدمت لنا آيات القران آيات بالغة التأثير فى هذا الإطار منها قوله تعالي: «وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُول ِتَرَى أَعيُنَهُم تَفِيضُ مِنَ الدَّمعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحَقّ يَقُولُونَ رَبَّنَا ءَامَنَّا فَاكتُبنَا مَعَ الشَّـاهِدِينَ» (83 المائدة).
والسياق القرآنى لا يقف عند حد اعترافهم بل قالوا: (وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين) وهو مشهد حى يرتسم من التصوير القرآنى لهذه الفئة من الناس الذين إذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول اهتزت مشاعرهم ولانت قلوبهم وفاضت أعينهم بالدمع تعبيرا عن التأثر العميق العنيف بالحق الذى سمعوه والذى لا يجدون له فى أول الأمر كفاء من التعبير إلا الدمع الغزير – وهى حالة معروفة فى النفس البشرية حين يبلغ بها التأثر درجة أعلى من أن يفى بها القول فيفيض الدمع ليؤدى ما لا يؤديه القول وليطلق الشحنة الحبيسة من التأثر العميق العنيف. ثم يتقدمون ليتخذوا من هذا الحق موقفا إيجابيا صريحا موقف القبول والإيمان والإذعان لسلطانه وإعلانه فى لهجة قوية عميقة صريحة: (يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين).
وليس هناك أبلغ ولا أعمق فى الدَّلالة على مدى أثر القرآن على سامعيه من أعدائه من تلك الصُّورة الجماعيَّة حيث ضرب لنا كفَّار قريش مثلاً واقعيّاً يبيِّن أثر القرآن العظيم على قلوبهم – رغم كفرهم – فلم يتمالكوا أنفسهم عندما قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «النَّجم» وسجد فسجدوا وهم مشركون وهم يمارون فى الوَحْى والقرآن وهم يجادلون فى الله ورسوله وإنَّما سجدوا تحت وطأة القرآن وسلطانه على الكون كلِّه. قال ابنِ عَبَّاسٍ رضى الله عنهما : «سَجَدَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم بالنَّجْمِ، وسَجَدَ مَعَهُ المُسْلِمونَ والمُشْرِكُونَ، والجِنُّ والإنْسُ».
الثالث: تماهى القراء المصريون إلى أقصى درجة مع معانى القرآن الكريم ويجعلون وينقلون السامع إلى عوالم القرآن الحقيقية فهم يعيشون الآيات ويسكنون فيها بقلوبهم وكل جوارحهم وابدعوا فى ذلك ايما إبداع يتنقل بك القارئ إلى روضات القرآن إلى جنات النعيم ويجعلك فرحا مستبشرا ويغوص بك إلى دركات الجحيم فيزلزل مشاعرك ويخلع قلبك وتجد نفسك فى رجفة غير قادر على السيطرة وأنت تتعوذ بالله ولسانك يتلعثم وهو يلهج يا ربى سلم سلم.
فى تصورى أن المسألة مرتبطة هنا أيضا إلى جانب القدرة الصونية الخارقة والمؤثرة القادرة على التصوير والتفاعلات مع المواقف المختلفة بمدى استيعاب قضايا جماليات الأداء الفنى فى القرآن الكريم والبلاغة التصويرية المعجزة للمواقف المختلفة ليس فقط العذاب والنعيم ولكل حركة الكون والحياة ومشاهد القيامة وأهوالها.
ـفى الأثناء كانت عيون أعداء الاسلام والأمة ترصد ونراقب تأثير القراء على الجماهير ولديهم قرون استشعار ومراكز للرصد بدقة لذلك لم يغب عنهم فكرة استغلال جماهيرية القراء الكبار ومدى تعلق الناس بهم والاقبال على الاستماع إليهم فى كل وقت وهو ما يسميه خبراء الاتصال بالقوة الناعمة وامامنا نموذجان حدثا مع القارئ العظيم محمد رفعت وهيئة الاذاعة البريطانية وإذاعة باريس والشيخ السعدنى وإذاعة برلين وذلك خلال الحرب العالمية الثانية تنافست إذاعتا لندن وباريس لكى يُسجل لها الشيخ رفعت فى افتتاحية برامجها باللغة العربية ولكنه رفض لأنه لا يحب أن يتكسب بقراءة القرآن الكريم وخوفا من أن يستمع الناس إليه فى الملاهى والحانات.. إلا أن فتوى من الإمام المراغى شيخ الأزهر آنذاك حلحلت الموقف فوافق الشيخ رفعت على تسجيل سورة مريم لإذاعة «بي بي سى البريطانية».
هناك رواية أخرى وهو إنه كان ممكنا أن يسجل الشيخ رفعت القرآن كاملا فى الإذاعة، لولا حدوث نوع من سوء الفهم على يد الشاعر والصحفى أبو بثينة فقد كان أبو بثينة وسيطا بين الإذاعة البريطانية والإذاعة المصرية من جهة والشيخ محمد رفعت من جهة أخرى ليسجل شيخنا القرآن بأكمله ويصبح حق الانتفاع به للإذاعة.
وذهب للشيخ رفعت الذى طلب أجرا معينا وطلب مقابل تسجيل الشريط ومدته ساعة 100 جنيه ومقابل الاستخدام 100 جنيه أخرى ومقابل الانتفاع 5 جنيهات لتسجيل 10 شرائط فقط أى أن المقابل الذى سيتم دفعه 2000 جنيه وبالفعل أرسل الشيخ للإذاعة البريطانية فى لندن شريطين الأول يحمل تسجيلا لسورة آل عمران والآخر لسورة مريم لكن أبو بثينة أرسل لمدير الإذاعة البريطانية رقما خاطئا فقد أخطأ فى حساب المبلغ المطلوب وأرسل لهم ما يفيد بأن الشيخ يطلب أكثر من 20 ألف جنيه، فرفضت الإذاعة البريطانية هذا الرقم الخرافي.
الواقعة الثانية كانت مع الشيخ أحمد السعدنى عام 1941 وأثناء الحرب العالمية الثانية فوجئت مصر بأن بريطانيا توجه اتهاماً صريحاً للمقرئ المصرى أحمد سليمان السعدنى بالتعاون مع دول المحور بقيادة ألمانيا النازية.. قالت مخابرات الحلفاء إن الشيخ السعدنى يذيع كل مساء من محطة برلين العربية وقالت التقارير أيضاً إن إذاعة الأخبار باللغة العربية تكون بعد التلاوة مباشرة وأن عدداً كبيراً من الناس يستمع إلى إذاعة برلين ليتمكن من سماع الشيخ السعدني.
وعندما سمع مصطفى النحاس باشا وكان رئيساً للوزراء بالقصة، استدعى الشيخ، وعندما دخل عليه مكتبه رفض «النحاس» مصافحته قائلاً له بلهجة حادة: «لا.. ده مش كلام.. أنت راجل بتتعامل مع المحور». وشرح «السعدني» للنحاس باشا كل شيء واقتنع رئيس الوزراء فمد يده وصافحه، وقال له: الآن اطمأن قلبي.
.. والله المستعان..