حتى كتابة هذه السطور ظهر الثلاثاء ــ أول أمس ــ لم يشهد العالم الرد الإيرانى المتوقع على الضربة الإسرائيلية التى دمرت مقر القنصلية الإيرانية فى العاصمة السورية دمشق، وقتلت سبعة من كبار قادة الحرس الثورى على رأسهم الجنرال محمد رضا زاهدي، أثناء عقدهم اجتماعا سريا بالقنصلية.
الضربة تمت فى اليوم الأول من أبريل الحالي، وكل التصريحات الرسمية الصادرة من طهران بعدها توعدت إسرائيل بـ «رد انتقامى يجعلها تندم»، وهى تصريحات صدرت من أعلى سلطة فى إيران وهو المرشد الأعلى «على خامنئي»، ومن الرئيس الإيراني، ومن قادة القوات المسلحة، والحرس الثوري، دون أن تحدد موعداً أو مساحة زمنية لهذا الرد، أو لشكله، بل اكتفت بأنه سيتم فى الوقت والمكان المناسبين.
ورغم أن عدم التحديد هذا طبيعى فى مثل هذه الحالات، لإرباك العدو، وجعله يتحمل أكبر تكلفة لتشتت تفكيره بين أكبر عدد من الاحتمالات والاستعداد للمواجهة على أى منها، فإن تفكير إسرائيل اتجه بصفة أساسية إلى احتمالين، هما:
١- توقع أن يستهدف الرد الإيرانى مقار البعثات الدبلوماسية الإسرائيلية فى الخارج باعتبار الضربة كانت على مقر القنصلية الإيرانية فى سوريا.
٢- أو أن تستهدف الضربة الداخل الإسرائيلى باستخدام المسيرات أو الصواريخ البالستية.
وتحسباً للاحتمال الأول، سارعت إسرائيل إلى إغلاق ثمان وعشرين مقراً لسفاراتها بالخارج، وعززت الحراسة على بقية سفاراتها، مع تعميم منشور على كل العاملين بها لتوخى أشد الحذر فى تحركاتهم واتصالاتهم.
أما الاحتمال الثاني، فقد دفع قيادة الجيش الإسرائيلى إلى رفع درجة الاستعداد إلى القصوى واستدعاء احتياطييه من رجال الدفاع الجوى لتعزيز القدرة على مواجهة المسيرات والصواريخ البالستية الإيرانية.
ولأن التصريحات الإيرانية لمحت إلى مسئولية لأمريكا فى الضربة الإسرائيلية، فقد رفعت الولايات المتحدة أيضاً درجة الاستعداد للقصوى فى قواعدها العسكرية المنتشرة بالمنطقة، وأرسلت تحذيراً لإيران بعدم التورط فى ضربها.
هذا حدث على مستوى «المكان» المحتمل للرد العسكرى الإيراني.
أما على مستوى توقع «الزمان»، فمعظم التوقعات سارت فى اتجاه أن الرد سيتم قبل أن ينتهى شهر رمضان، الذى انتهى بالفعل.. أول أمس الثلاثاء .
المهم، أن إيران نجحت – حتى الآن – فى إثارة حالة من الرعب لدى إسرائيل، وحالة من القلق لدى أمريكا طيلة الأيام التسعة الماضية، وأقصى حالة من التأهب لرد لا يعرف أى منهما على وجه اليقين أين ومتى يحدث؟.
لكن – فى حدود متابعتى المتواضعة لما نشر حول هذا الموضوع، فإن أحداً لم يناقش احتمال وجود مشكلة لدى إيران فى تحديد طبيعة ونوع الرد، والتى قد تكون وراء تأخره.
فالضربة الإسرائيلية لم تستهدف مقر القنصلية الإيرانية فى دمشق لذاته، وإنما استهدفت من كانوا مجتمعين داخله من قيادات الحرس الثورى الذى تحمله إسرائيل ومعها أمريكا مسئولية دعم الجماعات والأحزاب والفصائل المناوئة للدولتين فى المنطقة مثل حماس والجهاد وحزب الله والمقاومة الإسلامية فى العراق والحوثيين فى اليمن.. إلى آخره.
وما كانت إسرائيل ستغامر باستهداف مقر بعثة دبلوماسية وتدميره لو كان خالياً، أو لو كان من فيه هم العاملون المعتادون به فقط.
بالتالي، هى عملية «اغتيال» لأشخاص على القائمة الإسرائيلية للمطلوبين من القيادات العسكرية الإيرانية بصرف النظر عن المكان الذى تواجدوا فيه، إن كان مكاناً عادياً، أو مكاناً محمياً بقواعد القانون الدولى وبالعرف الدبلوماسي.
وقد برعت إسرائيل فى مثل هذه العمليات الخاصة، وجزء من براعتها يعود لنشاط أجهزتها الاستخباراتية الخارجية فى رصد من تعتبرهم أعداء لها أو يشكلون خطراً عليها، ومعرفة كل صغيرة وكبيرة عن حياتهم وتحركاتهم، بحيث يسهل عليها اصطيادهم عندما تجد ضرورة لذلك.
جزء آخر يتعلق بإسرائيل أيضاً فى هذه النقطة، لا يعود إلى براعة، بل إلى «بلطجة»، فقد تعرف أجهزة استخبارات دول عديدة كل شيء عن أعدائها، لكنها تتصرف وفقاً للقانون الدولى والشرعية الدولية، فلا تلجأ للرد على عملية اغتيال بعملية اغتيال مماثلة.. لكن إسرائيل تفعل، لأنها ترى نفسها فوق القانون الدولى بدعم الولايات المتحدة لها وحمايتها من أى إدانة أو عقاب.
وفى هذا المجال، فإن إسرائيل اعتادت، حين تتعرض لعملية ضدها، إن لا تكتفى بالرد على المرتكب المباشر للعملية، بل بالرد أيضاً على من ترى أنه المخطط والمدبر لها، أى تضرب الرأس ولا تكتفى بقطع الذيل، باعتماد إستراتيجية «الردع» وتنفيذها، ليس بقوة عسكرية خارقة لديها، بل أيضاً استناداً إلى الحماية الخارجية المتوفرة لها للإفلات من أى إدانة أو عقوبة دولية.
الجزء الأكبر من براعة إسرائيل فى مثل هذه العمليات راجع إلى ضعف الإستراتيجيات الخاصة بتأمين القيادات والشخصيات لدى الدول والجماعات المعادية لها، وهو ضعف وصل إلى حد غياب أبسط أبجديات قواعد الحفاظ على أمن وسلامة هذه الشخصيات، رغم اليقين بأنها مستهدفة من إسرائيل بالاغتيال فى أى وقت.
لقد شهدنا، منذ نجاح إمريكا فى اغتيال قائد الحرس الثورى الإيرانى الجنرال قاسم سليمانى فى العراق، وبالتحديد خلال الستة شهور المنتهية على اندلاع عملية «طوفان الأقصي»، نجاح إسرائيل فى اغتيال عدد من قيادات الحركات والفصائل الفلسطينية، ومن حزب الله اللبناني، ومن الحرس الثورى الإيراني.
وقد تحقق لإسرائيل النجاح فى هذه العمليات لأنها تمت على أراضى دول مثل سوريا والعراق ولبنان وهى للأسف ــ دول مازالت تفتقر للأمن الذاتي، وتحولت أراضيها بفعل التدخلات الأجنبية وتقاطع المصالح عليها إلى ساحات مفتوحة أمام كل أجهزة الاستخبارات العالمية «للتصارع وتصفية الحسابات وهذه نقطة الضعف الأولي.
نقطة الضعف الثانية، هى تواجد أكثر من شخصية قيادية من التى تعرضت للاغتيال داخل سيارة واحدة أو فى مبنى واحد، بالمخالفة لأبسط أبجديات الأمن، مما سهل لإسرائيل القضاء، بضربة واحدة، على أكبر عدد من خصومها فى بعض هذه العمليات.
هنا تقع الاشكالية أمام تحديد طبيعة ونوع الرد الإيراني..
> إيران لا تستطيع استهداف سفارة أو قنصلية إسرائيلية فى الخارج لذاتها إلا فى حالة مماثلة لحالة قنصليتها فى سوريا، وهو وجود نشاط من طبيعة غير دبلوماسية معاد لها من وجهة نظرها.. أما كسفارة أو قنصلية فى ذاتها فهذا يعرضها للإدانة الدولية، فهى ليست فوق القانون الدولى كإسرائيل، وتتمتع بعداء أمريكا وليس بحمايتها.
> لم تشهد منطقتنا رداً على أى عملية اغتيال قامت بها إسرائيل حتى الآن، بعملية مماثلة، أى اغتيال شخصيات إسرائيلية خلال تواجدها داخل إسرائيل أم خارجها.
> الاحتمال القائم أن يكون الرد باستهداف منشأة عسكرية داخل إسرائيل أو خارجها، خاصة بعد أن قامت إيران بعرض علنى لنماذج من صواريخ يستطيع مداها الوصول للداخل الإسرائيلي.
> تكثيف النشاط الإيرانى فى البحر الأحمر لاستهداف السفن الإسرائيلية ولكن بعملية نوعية وهى احتمالات قائمة، لكن المؤكد أن إيران لابد أن ترد، لأن عملية دمشق موجعة لها، وعدم الرد يحرجها أمام حلفائها.