تعتبر القدرة على الارغام أحد أهم أنواع القوة المستخدمة حديثاً بجانب القوة الصلبة والقوة الناعمة، لارغام الدولة على الامتثال للأهداف المعادية بهدف كسر الارادة وارخاء قبضة الدولة على زمام السلطة، ويعتمد نجاح هذه القوة على من يقوم بعملية الارغام، وعلى مدى ضعف المستهدف، ولا شك أن هذه القوة كانت هى الموجهة لمصر بعد أحداث 2011 لكسر ارادتها وارخاء قبضة الدولة على تحقيق الرخاء، عبر مسارات تنموية قادرة على رفع معدل النمو الاقتصادي، ومستوى المعيشة، وزيادة فرص العمل، مع ضمان تكافؤ الفرص والتوزيع العادل لعوائد التنمية، وبما يضمن الحياة الكريمة للمواطنين، لذا جاءت أحداث 2013 لتعلن الانقلاب على هذه الاستراتيجية الموجهة لكسر ارادة الدولة المصرية، وعبر مواجهتها بنفس آلياتها التى تعتمد على وجود اقتصاد متوازن وقوى لمن يقوم بعملية الارغام من أجل السيطرة على الآخرين والحاق الأذى بهم، ولكن استطاعت القيادة المصرية الحكيمة ردع محاولات هذا الارغام، لا لسبب الا أن القيادة السياسية أدركت أن الدولة المصرية تمتلك نفس الأسباب الأربعة التى تجعل من أى دولة ذات قدرة على ممارسة استراتيجية الارغام، وهى الموقع الجغرافى المتميز، والقدرة الاستخباراتية، والقدرة على حشد الدعم والتأييد الدولى وأخيراً وجود مقومات اقتصادية قادرة على تحقيق الاستقرار الاجتماعى وقت وقوع الأزمات الكبرى .وهو ما لمسناه جيدا بقدرة مصر على مواجهة الأزمات العالمية المتتالية بدءا من أزمة الأسواق الناشئة عام 2018، ثم أزمة جائحة كورونا عام 2020، ثم الأزمة الروسية الأوكرانية عام 2022 والآن تصاعد الأزمة الفلسطينية الاسرائيلية، حيث استطاع الاقتصاد المصرى مقروناً بقوة جهاز المخابرات، ومدعوما بالسياسة الخارجية المرنة التى استطاعت حشد التأييد الدولى بجانب مصر كانت آخرها القمة المصرية الأوروبية بالقاهرة الأسبوع الماضي، وممتزجا بعبقرية المكان للدولة المصرية . حيث استطاع الاقتصاد المصرى برغم كل هذه الازمات، ومتسلحا بهذه الأدوات ان يعبر بسلام الى مسار النمو المتوازن جغرافياً وقطاعيا، وتحقيق الاتزان المالى والتجاري، وضبط آليات السوق، وضمان الحياة الكريمة للمواطن المصري، وهو ما تجلى على ارض الواقع بعد اجتماع السيد الرئيس برجال السياسة المالية، للنظر فى بنود الموازنة العامة للدولة والتحول من مجرد فرض الرقابة على المال العام فى ظل موازنة البنود والاعتمادات الى خدمة الادارة الحكومية بهدف تطويرها ورفع كفاءتها فى تأدية الأعمال وقياس الأعمال المنجزة، حيث وجه الرئيس بضرورة زياده مخصصات الدعم والمنح والمزايا الاجتماعية، من أجل دعم الصادرات واستكمال برنامج تكافل وكرامة، مع زياده مخصصات قطاعى الصحة والتعليم بنسبة أكبر من 30٪ باعتبارهما يأتيان ضمن أهم أولويات الدولة لاستكمال استراتيجية بناء الانسان المصرى خلال الموازنات المالية المقبلة، لذا جاء مشروع موازنه العام المالى 2024/2025 لأول مرة بتقديم مشروع موازنة الحكومة العامة والتى تشمل الموازنة العامة للجهاز الادارى للدولة، وجميع الهيئات الاقتصادية التى تبلغ 40 هيئة، ليبلغ اجمالى مصروفات الحكومة العامة 6.4 تريليون جنيه، مقابل ايرادات تبلغ 5,05 تريليون جنيه، وعند استعراض أهم بنود الموازنة نجد أن الرئيس بحسه السياسى العالى يدرك تماماً أن استراتيجية الارغام الموجهة لكثير من دول العالم، ومنها مصر، يتطلب مواجهتها وضع خطة محكمة للدين العام والذى يمثل حائط الصد المنيع ضد نهضة الدول واستقرارها، لذا حرص الرئيس على ضرورة خفض العجز الكلى على المدى المتوسط، ووضع معدل للدين للناتج المحلى فى مسار نزولى ليصل إلى 80٪ فى يونيو عام 2027، عبر استراتيجية جديده تتضمن وضع سقف قانونى لدين الحكومة العامة، بحيث لا يمكن تجاوزه الا بموافقة رئيس الجمهورية والحكومة، فضلا عن توجية نصف ايرادات برنامج الطروحات لخفض حجم المديونية الحكومية، مع العمل على اطاله عمر الدين. لذا فان خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية الداعمة للنمو تستند على رؤية مصر عام 2030، والبرنامج الوطنى للاصلاحات الهيكلية للاقتصاد المصري، وضمان تحقيق معدل نمو اقتصادى لا يقل عن 4٪ رغم أن صندوق النقد الدولى قدر معدل النمو الاقتصادى لمصر خلال السنة القادمة بنحو 4,6٪. ما نؤكد عليه هو ضرورة زيادة نصيب الاستثمارات الخاصة الى اجمالى الاستثمارات الكليه التى تبلغ 586 مليار جنيه، وهو ما يتفق مع وثيقة سياسة ملكية الدولة، وبما يتجه نحو زياده الاستثمارات الحكومية فى التنمية البشرية الى نحوه 43٪ تأكيدا على أن لكل مواطن الحق فى العيش على أرض هذا الوطن فى أمن وأمان، وأن لكل مواطن حقا فى يومه وفى غده. لذا تدرك القيادة السياسية أن هناك مجموعة من المخاطر الدولية يجب مواجهتها، وهذه المخاطر قد تغيرت عبر السنوات الاخيرة، حيث نجد أن تغيرات المناخ قد احتلت المرتبة الأولى فى مقدمة المخاطر منذ عام 2018 باستثناء عام الجائحة 2020، ثم عادت مخاطر تغيرات المناخ للصدارة على المستوى العالمي. ففى تقرير 2020 كانت المخاطر الخمسة الأولى على الترتيب هي: تغيرات المناخ، ثم أمن المعلومات أو الأمن السيبراني، والجوائح والأمراض المعدية، والمخاطر الجيوسياسية، ومخاطر التذمر الاجتماعى ونشوب صراعات داخلية.. أى أن التغيير قد طرأ بسبب الحرب الأوكرانية فرفعت من مرتبة المخاطر الجيوسياسية لتصبح فى المرتبة الثانية، ودفعت بمخاطر الطاقة الى المرتبة الرابعة،لكن المفاجأة تناول تقرير المخاطر العالمية عام 2024 الصادر عن المنتدى الاقتصادى العالمي، توقعات المخاطر العالمية الأبرز فى 113 دولة بالعالم شملها التقرير، حيث تصدرت المخاطر الاقتصادية قائمة المخاطر فى نحو 80٪ من الدول التى شملها التقرير بواقع 90 دولة، فى حين تصدرت المخاطر الجيوسياسية قائمة المخاطر فى 12 دولة، فى حين جاءت المخاطر الاجتماعية فى مقدمة المخاطر بـ8 دول، فى حين جاءت المخاطر البيئية فى صدارة قائمة المخاطر بدولتين فقط، كما كانت الهند الدولة الوحيدة التى تصدرت فيها المخاطر التكنولوجية قائمة المخاطر المتوقعة لعام 2024، ومن هنا ندرك تماما الرؤية المصرية الثاقبة فى مواجهة المخاطر الاقتصادية التى تمثل الان أعظم المخاطر التى يجب مواجهتها عبر مجموعة من الآليات سيتم تناولها فى المقال القادم ان شاء الله.