الكتاب الذى إن شاء الله سبحانه وتعالى سنسرد «رسائله» اليوم.. هذا الكتاب على الرغم من صدوره «قبل خمسين» عاماً إلا أنه يلقى الضوء بشكل دقيق «تشريحي» على جانب مهم من جوانب أسباب هذا التوحش والتفنن والتمعن الإجرامى الذى تمارسه إسرائيل «اليوم» فى حربها المتواصلة ضد الشعب الفلسطينى وتهديدها المتصاعد للمنطقة العربية بأكملها.. إبادة متواصلة للبشر والشجر والحجر بكافة الأنواع والأشكال فى غزة والضفة الغربية وكافة الأراضى المحتلة.. والإعلان صراحة عن كافة الأطماع الإسرائيلية القديمة دون خجل أو مداراة أو مواربة.. لماذا تغولت وفجرت وتمددت إسرائيل إلى هذا الحد؟! .. لم تكن إسرائيل بهذه الدرجة من الإجرام والفجور والصراحة الدموية والاستعمارية فى جميع الحروب السابقة التى شنتها ضد الفلسطينيين والعرب.. ما الذى حدث وما الذى تغير؟! .. نعم كان هناك إجرام إسرائيلى مهول فى الحروب الماضية.. لكنه إجرام لم يرق إلى «هذه الصورة» التى يشاهدها العالم صباح مساء فى غزة ضد الرجال والنساء.. ضد المرضى والعجائز.. ضد الشيوخ والرضع والأطفال.. ضد الأحياء والأموات.. ضد الشجر والحجر.. ضد كل شيء.. إجرام لم يعرفه تاريخ الحروب من قبل.. ما سبب هذا التوحش المتزايد؟! .. هل من الطبيعى أن ينشيء جيش بنكا لجلود شعب بعد «سلخ»جثث شهدائه؟! .. هذا البنك ستستخدمه إسرائيل فى أبحاث أمنية وطبية ضد الفلسطينيين من جانب ومن جانب آخر تستخدم هذه الجلود «جلود الجثث الفلسطينية» فى علاج مرضى إسرائيل!! .. أى سلوك بشرى هذا الذى يجعل جنديا إسرائيليا يلتقط صورة لنفسه وهو يفجر منزلا فى غزة على ساكنيه ثم يرسل «هذه الصورة» عبر هاتفه المحمول إلى طفلته ويقول لها إن هذه الصورة هى «هدية عيد ميلادها» ؟!! .. فى أى مكان وزمان على وجه الأرض شاهد البشر جيشا يبيد شعبا أعزل بالتجويع والتعطيش وهدم المستشفيات وحرق الأطفال والقضاء على عائلات بعينها قضاء لا يبقى شيئا من النسل أو الذرية؟! .. عائلات فلسطينية بالكامل قام جيش الاحتلال الإسرائيلى بمحوها من سجلات الحياة!! .. ما هذا؟!! .. إن هذا التحول التصاعدى فى الشخصية الإجرامية الإسرائيلية أرى أن كتابنا اليوم يقدم تفسيرا مهما له.. بالتأكيد ليس هذا التفسير هو السبب الوحيد لكنه يمكن القول إنه واحد من أهم وأخطر الأسباب.
كتابنا الذى أتحدث عنه هو «الصابرا..الجيل الجديد فى إسرائيل» للمفكر الراحل أنيس منصور.. صدرت الطبعة الأولى منه فى عام «1974» أعقاب ملحمة العبور فى العاشر من رمضان 3931 «السادس من أكتوبر 3791».. فى هذا الكتاب يتناول أنيس منصور «التغير الجديد» الذى «يحدث» فى المجتمع الإسرائيلي.. وهو يقصد أن جيلا جديدا من الإسرائيليين «فى ذلك الوقت» بدأ يتشكل.. جيل غير أولئك الذين قدموا من أوروبا وأمريكا وأفريقيا ومن أماكن أخرى .. الجيل الإسرائيلى الجديد الذى تناوله أنيس منصور هو ذلك الجيل الذى ينتمى إلى «الصابرا».. ذلك الجيل ولد.. وتربي.. وتعلم.. «داخل إسرائيل».. هذا الجيل له خصوصيته واختلافه عن الإسرائيليين الآخرين الذين أسسوا إسرائيل وحكموها من قبل.. «صابرا» هم الجيل الأخطر.. والأعنف والأشرس.. لاعواطف.. لا أخلاق ..لا إنسانية.. إسرائيل فقط ولاشيء غيرها!!.. كتاب أنيس منصور وغيره من الكتب والكتابات الأخرى التى تحدثت وتناولت جيل «صابرا» تشير إلى أن ما يحدث فى حرب الإبادة على غزة.. وهذا الإجرام الإسرائيلى المتصاعد.. مرتبط بأن المنتمين إلى «جيل صابرا» بدأوا فى «السيطرة» على مفاصل الدولة ومراكز صنع القرار السياسى والعسكرى والاقتصادى والاجتماعى داخل إسرائيل.. فمن هم أولئك الـ»صابرا» وكيف نشأوا ولماذا تختلف شخصياتهم وأفكارهم وقناعاتهم وسلوكياتهم عن الإسرائيليين السابقين؟!
فى بداية الكتاب.. يشير أنيس منصور إلى تلك «النقطة الزمنية» التى رأى عندها «المحتلون الأوائل» من الإسرائيليين ضرورة إنشاء جيل إسرائيلى جديد له لغة واحدة ورؤية واحدة وسلوك واحد وأفكار واحدة.. جيل ينتمى لإسرائيل فقط.. الجيل الجديد أرادوا له أن يكون غير هؤلاء الصهاينة الذين قدموا من مختلف أنحاء العالم ليستوطنوا أرض فلسطين.. هؤلاء المحتلون الأوائل لغتهم مختلفة وانتماءاتهم مختلفة وسلوكياتهم مختلفة.. كل شيء عندهم مختلف.. كل شيء فيه خصوصية الدول التى قدموا منها.. مختلفون ولا تجمعهم سوى الصهيونية واحتلال فلسطين.. أما الجيل الجديد الذى تأمل إسرائيل فى ظهوره فهو جيل «صناعة صهيونية» داخل الأرض المحتلة.. جيل المستعمرات.. جيل الصهيونية الخالصة.. جيل لايعرف شيئاً إلا إسرائيل وقتل العرب.. كل العرب.
يدخل أنيس منصور إلى «قلب الموضوع» بواقعة مثيرة حدثت له فى عام «9591» عندما دعاه المستشار الصحفى لإحدى سفارات دول القارة الأمريكية لزيارته فى منزله.. كان هذا المستشار الصحفى صهيونيا كما يقول أنيس منصور.. وأثناء جلوس المستشار الصحفى وزوجته وطفلهما مع أنيس منصور على مائدة الطعام.. لاحظ أنيس منصور شيئا غريبا يحدث على المائدة.. الطفل ابن المستشار الصحفى الصهيونى يحاول ضرب أنيس منصور بالسكين لقتله!!.. يسرد أنيس منصور الواقعة بالتفصيل قائلا: لاحظت أنه بين الحين والآخر أن الطفل يرفع السكين يريد أن يقتلنى وكان أبواه يمنعانه برفق أو لعلهما يقدمانه لى برفق.. فالمعنى الذى أراده الأبوان قد بلغني.. إنهم «صهاينة» يكرهون المصريين.. والذى يشعر به الأبوان ويكتمانه يصرخ به الابن بمنتهى الصدق والبراءة.. ويعرض أنيس منصور هنا نص الحوار الكاشف الذى دار بينه وبين هذا الطفل.. قال أنيس منصور للطفل: لماذا «لماذا يحاول ضربه وقتله بالسكين»؟!.. فيرد الطفل : أنت مصري.. يسأل أنيس منصور الطفل ثانية وأنت؟.. يجيب الطفل: يهودي.. فيعيد أنيس منصور السؤال:أنت أمريكى يهودى؟.. ليرد الطفل: يهودي.. فيسأل أنيس منصور من جديد: أنت إسرائيلى؟.. ليجيب الطفل: إسرائيلى يهودى أمريكي!!.. يقول أنيس منصور: لقد صدقت الطفل لأن هذا هو شعور كل يهودى فى العالم.
يبدأ أنيس منصور بعد ذلك فى التقديم لجوهر الفكرة أو القضية حيث يقسم الإسرائيليين إلى ثلاثة أنواع بقوله: إن إسرائيل بها ثلاثة أنواع.. «الإسرائيليون الرواد» وهم الذين جاءوا من بلاد كثيرة وعاشوا وماتوا داخل «إسرائيل».. والإسرائيليون الذين ينتمون إلى جيل «صابرا» وهم الذين ولدوا على الأرض «التى أصبحت إسرائيل».. والنوع الثالث هم المهاجرون الجدد الذين وفدوا إلى إسرائيل من كل مكان فى العالم.. ويشير أنيس منصور إلى أن: أكثر الاسرائيليين كراهية للعرب هم الإسرائيليون الشرفيون الذين عاشوا فى الشرق ثم غادروا من البلاد العربية وجاءوا إلى إسرائيل.. ويضيف أنيس منصور «واضعا يده على بدايات تكوين الجيل الحالى الحاكم فى إسرائيل.. جيل حرب الإبادة على غزة « أن : مشكلة إسرائيل أن بها عددا كبيرا من شعوب العالم ليست لهم لغة واحدة ولامذهب سياسى واحد ولامذهب دينى واحد .. لذلك يريدون صهر الشعب بالقوة..فلابد أن يتكلموا العبرية.. أما الأطفال فلابد أن يتم وضعهم فى المستعمرات حتى يكونوا «طرازا واحدا» من المواطنين الجدد المتعصبين لإسرائيل.. يجب أن ننتبه إلى أن أنيس منصور يرصد ذلك وهو فى عام «7491».
المستعمرة.. هى كلمة السر فى التوحش والتغول والإرهاب الإسرائيلى .. هكذا يفهم من وصف ورصد وسرد أنيس منصور للحياة داخل مستعمرات إسرائيل .. المستعمرات التى أنتجت الجيل الصهيونى الحالى الذى يستعذب دماء أطفال وشيوخ ومرضى ورضع غزة.. المستعمرة كما وصفها أنيس منصور تصب الشباب الإسرائيلى فى «قوالب حديدية» من العمل والابتعاد عن مشاكل الأسرة والعلاقات الإنسانية بين الأبوين والأبناء .. الهدف من المستعمرة هو إنشاء «جيل إسرائيلى أكثر عنفا».. ويستدعى أنيس منصور هنا عبارة ذات دلالة لأحد أشهر مؤسسى إسرائيل هو بن جوريون والذى قال»يجب ألا تكون إسرائيل دولة «شرقية»..يجب أن تكون غربية لأن روح الشرق.. والكلام لا يزال لبن جوريون.. تدعوا إلى الانحلال والتراخى .. ثم إن الروح الشرقية تؤدى إلى تحطيم كل ما أتمناه .. إننى لا أريد أن يكون اليهود عربا ..يجب أن يحتفظوا بكل القيم اليهودية التى بلورتها ألوف السنين»!!
يوضح أنيس منصور أن «المحتلين الرواد» أرادوا لأبناء المستعمرات الإسرائيلية الذين ولدوا على «الأرض المحتلة» أرادوا لهم أن يكونوا إسرائيليين مختلفين.. يتم فى تربيتهم وإعدادهم تلافى كافة العيوب التى عانى منها «المحتلون الرواد» الذين جاءوا من هنا وهناك.. يقول أنيس منصور فى ذلك.. ويجب التنبيه ثانية على أن هذا الوضع الإسرائيلى رصده أنيس منصور قبل خمسين عاما.. قبل أن تصير دولة الاحتلال بالحال والحالة التى نراها الآن.. يقول أنيس منصور: اليهود «فى تلك الفترة» كانت لهم مشاكل كثيرة.. من أهم هذه المشاكل أنهم مختلفون.. لهم عشرات اللغات وعشرات الجنسيات .. لا يجمع بينهم سوى الديانة والأحلام الصهيونية والحقد على كل الشعوب واحتقارها.. ومن المشاكل الكبرى التى أثرت فى الشخصية اليهودية أن أسلافهم عاشوا وماتوا فى «حارات اليهود».. تلك الشوارع الضيقة المظلمة القذرة.. لذلك فمن أحلامهم العيش فى الشوارع الفسيحة والقصور.. ومن مشاكلهم أيضا»فى تلك الفترة الزمنية» أنهم كانوا لا يجدون لغة واحدة تجمعهم.
المستعمرة.. وجدت فيها «دولة الاحتلال» ضالتها لكى تعالج كافة المشاكل التى عانت منها الشخصية اليهودية فى أوروبا ومختلف دول العالم .. المستعمرة كانت «كلمة السر» لتثبيت مخالب الاحتلال الإسرائيلى فى فلسطين والمنطقة العربية .. ليس ذلك فحسب بل كانت المستعمرة هى المدرسة التى تخرج منها وسار على «مناهجها» كل مجرمى الحرب الإسرائيليين الذين يبيدون الشعب الفلسطينى بأكمله «الآن».. الحياة داخل المستعمرات الإسرائيلية التى تربى فيها هؤلاء القادة الإسرائيليون كانت تؤهل كل من يدخل فيها أو ينتمى إليها لأن يكون كائنا آخر لا يربطه بالإنسانية سوى «الشكل».. المستعمرات الإسرائيلية.. بها المزرعة.. والمصنع.. وغرف النوم .. والمعبد.. وورشة لصناعة السلاح الذى يستخدمونه ضد العرب.. يعيش الأبناء داخل هذه المستعمرات بعيدا عن آبائهم وأمهاتهم.. يتلقون برامج تربوية وتأهيلية لا يوجد شبيه لها على وجه الأرض.. المستعمرات الإسرائيلية كما وردت فى كتاب أنيس منصور إنما هى حقول أعدها «الإسرائيليون الرواد» لصناعة ما يمكن أن نطلق عليهم «أشباه البشر».. هدفهم الأول والأخير إبادة وتدمير كل ماهو فلسطينى وكل ما هو عربي.. ماذا يحدث للأطفال والشباب الإسرائيلى داخل «المستعمرات»؟.. هذا ما سنعرفه من كتاب أنيس منصور «الصابرا» فى الأسبوع القادم إن شاء الله.
من خرج فى طلب العلم كان فى سبيل الله حتى يرجع.. صدق حبيبنا محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.. اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم فى العالمين انك حميد مجيد..اللهم بارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم فى العالمين انك حميد مجيد.. وصلى الله على سيدنا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
فلسطين.. أرض الأقصى.. أرض المحشر.. أرض المسرى.. مسرى حبيبنا وسيدنا محمد رسول الرحمة والإنسانية.. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.