تخيل نفسك فى صحراء شاسعة بلا حدود، ومعك «تريلا» محملة بالدولارات، وليس معك طعام ولا شراب، وتعطلت سيارتك والطريق وعر ومهجور، ولا يوجد أى مظهر للحياة، ولا يلوح فى الأفق أى بادرة للنجاة، واستبد بك الجوع والعطش فى طقس شديد الحراة، وأوشكت على الموت، ثم فجأة جاءك الفرج وظهر شخص ومعه طعام وشراب قليل، وعندما طلبت منه شربة ماء وكسرة خبز جافة، ساومك وطلب منك المقايضة، كوب ماء صغير ونصف رغيف «ناشف» لإنقاذ حياتك مقابل هذه «التريلا» المحملة بالدولارات، السؤال: هل ترفض الصفقة وتعتبرها خاسرة بكل المقاييس وتختار الموت، أم تقبل وتقايض؟
سأترك لك الجواب، فليس من حقى أن أجيب نيابة عنك، فأنت صاحب القرار والاختيار فى هذا الموقف، ولك مطلق الحرية فيما تذهب إليه، فالأمر يخصك وعليك أن تتحمل النتيجة أيا كانت، سواء ذهبت إلى هذا الاختيار أو ذاك، المهم لا تندم، وإن كان من يختار الموت فسيفقد حياته ولا وقت للندم، ومن يختار المقايضة ويشترى كسرة خبز بتريليونات الدولارت، فسيعض الأنامل ويرى أن الصفقة جائرة، ولو أنقذت حياته، فقد وقع تحت ضغوط لا اختيار فيها إلا بخسارة لا مثيل لها.
هل يمكن أن يحدث مثل هذا الموقف الذى يبدو خياليا؟، نعم وبكل تأكيد إنه حدث بالفعل، ليس مرة بل مرات عدة خلال سنوات قليلة، عندما نعود إلى الوراء قليلا، حين تفشى وباء كورونا، وأغلقت الدول حدودها، والغالبية أوقفت تصدير السلع، وفى تلك الفترة كان الأقوى هم من يملكون غذاءهم، وليس من يملكون أوراق البنكنوت «المتلتلة» فى الخزائن أو البنوك، وكادت تصبح بلا قيمة بعد أن خلت المتاجر من السلع وتضاعفت أسعارها بشدة.
ومع اندلاع الحرب الروسية ــ الأوكرانية، شهدت الأسواق العالمية زلزالا فى الأسعار وخاصة السلع الغذائية وتوقف الكثير من السلاسل العالمية عن التوريد، لاتخاذ الدول أيضا قرارت مماثلة بالاحتفاظ بالسلع لسكانها خشية توقف التجارة العالمية وامتداد زمن الحرب وانتشار المجاعات مع النقص الشديد فى الطعام، ولم تستقر الأسواق حتى الآن.
الأمر تكرر بصورة مختلفة، حيث أشعل الرئيس الأميركى دونالد ترامب أسواق المال العالمية بفرض رسوم جمركية على واردات الولايات المتحدة من 180 دولة ومنطقة، وأثارت أزمة اقتصادية وموجة من التوترات التجارية، وتراجعت الأسواق الأمريكية بشكل كبير، وفقدت الشركات الكبرى فى وول ستريت نحو تريليون دولار من قيمتها السوقية، وتراجعت أسواق الأسهم العالمية بشكل حاد، ودخلت الأسواق فى حالة من القلق.
ووصف الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون سياسة ترامب بأنها «جائرة»، وستتسبب فى زيادة الفقر بين الطبقات الوسطى فى أمريكا، وسيتعين على أوروبا الرد بشكل متسارع، وإلا سنشهد انهيارًا فى التجارة العالمية.
وإن كانت سهام الرسوم الجمركية لم تستثن دولة فى العالم حتى من أصدقاء وحلفاء أمريكا، إلا أن التصعيد الأكبر كان مع الصين، التى وصفت الرسوم بأنها «الحرب النووية الثالثة» وردت برفع الرسوم على الواردات الأمريكية، فى وجه ما وصفته بـ«التنمر الأحادى»، وقال الرئيس الصينى، إن بلاده ليست خائفة، بينما امتدح ترامب، نظيره الصينى شى جين بينج، واصفا إياه بأنه قائد جيد وذكى للغاية، وشكل مختلف من القيادة، والصين دولة كبيرة وعظيمة.
وبكل تأكيد لو لم يكن الاقتصاد الصينى قويا وأن بكين قادرة على «المناطحة» والصمود، ما اتخذت الرد الموجع لواشنطن، ولا امتدح ترامب صديقة «اللدود»، رغم الصراع الاقتصادى والجيوسياسى بين البلدين.
الحرب مستمرة ولم تضع أوزارها بعد، والعالم لا يعرف للإنسانية محلا، ولا مكان للمشاعر والعواطف، ويسير بمنطق «البقاء للأقوى»، و«إن لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب»، والنتيجة كما قال الشيخ الشعراوى رحمه الله، «لن تكون الكلمة من الرأس إلا إذا كانت اللقمة من الفأس».
لا يجب أن نكون بين اختيار امتلاك اللقمة أو «تريلا» الدولارات، إنما يجب امتلاكهما معا، وحفظ الله مصر وأهلها من كل سوء.