كيف كانت حياة الناس قبل النار والكهرباء وأوانى الطهى؟. يبدو السؤال ساذجا وفى غير مكانه أو زمانه، أو هو لا يستحق إضاعة الوقت فى الإجابة عنه، ولكن العلماء لهم رأى آخر. فهذا السؤال هو العنوان الرئيسى لقائمة تضم آلاف التساؤلات الفرعية التى تهدف إلى معرفة المستقبل الصحى للانسان وتفسير الواقع الصحى غير المبهج له. وعلى المستوى الشخصى يأخذ الأمر بعدا آخر، فالجولة السريعة داخل أى دار متخصصة فى بيع الكتب، تكشف أن الأرفف المخصصة لكتب الطهى تضم آلاف العناوين، بدءا من كتاب «أبلة نظيرة»، وصولا إلى موسوعة «الشيف رمزى» الفخمة مرورا بالشيف شربينى، وتكتشف أن كتب الطبخ يفوق عددها كل كتب المجالات الأخرى، وكأن الإنسان المعاصر لم يعد يشغله سوى بطنه أو معدته التى هى بيت الداء وأصل كل بلاء كما هو مأثور عن أطبائنا العظماء القدامى.
التطور التاريخى لمائدة الطعام أو لطريقة إعداد الطعام يحمل الكثير من الحقائق الطريفة والغريبة، فطعامنا اليوم، خصوصا فى المجتمعات العربية أصبح شديد التعقيد، كثير المكونات، صعب الإعداد.. وتتساوى فى ذلك كل الأصناف تقريبا، بل أن طبق الكشرى الشعبى الشهير يقدم نموذجًا فريدًا لهذا التعقيد وعدم التناسق فى المكونات.. فهو يتكون من الأرز والعدس والحمص والمكرونة والبصل والصلصة مع الخل والثوم والشطة.. كيف اجتمعت المكرونة مع الأرز، أو العدس مع الحمص، أو الثوم مع البصل مع الفلفل الحار، أو كل ذلك فى طبق واحد؟، سؤال يبعث على الحيرة، ولكن الإجابة عنه ليست ملحة، ما دمنا نستمتع بهذه المكونات الغريبة غير المتناسقة.
وأغرب ما يمكن أن يصادفنا من حقائق حول الطعام ورحلة تطوره عبر التاريخ، أن الإنسان الإفريقى المتهم غالبا والمظلوم دائما، هو أول من اكتشف طهى الطعام على الإطلاق، وأن أول وجبة مطبوخة، وكانت تتكون من جذور النباتات مع الحبوب المشوية واللحوم الشهية، يعود تاريخها إلى حوالى مليون و900 ألف سنة بالتمام والكمال.. وأنه منذ هذا التاريخ المثبت علميا تغيرت أحوال الناس وأدوارهم وحتى تكوينهم الجسدى بشكل درامى، وأن الكثير من متاعبنا الصحية المكتسبة أو المتوارثة سببها عبقرية الابتكار فى أصناف الطعام، وهو ما يؤكده فريق من علماء جامعة هارفارد بعد أن عثروا على أدلة من العظام والأدوات المصنوعة من قرون الحيوانات لاستخراج الجذور، وآثار نيران تعود الى هذا التاريخ السحيق.
يرى هذا الفريق أن الوجبة الأولى تعد البداية الحقيقية للحضارة البشرية، فقد قادت إلى ولع النساء بالأعمال المنزلية والطهى، وإلى حدوث تغيرات بدنية فى جسم الرجل، من بينها صغر حجم أسنانه وكبر معدته، إلى جانب كبر حجم المخ البشرى بشكل عام. ويضيف ريتشارد رانجام أستاذ الأنثروبولوجى فى هارفارد أن الطهى مسئول عن تطور عملية التزاوج فى المجتمعات البشرية القديمة، كما كان له تأثير أساسى على أسلوب حياة الإنسان الأول، فالإنسان عندما كان يأكل المواد النيئة كان عليه أن يقضى نصف اليوم فى مضغ الطعام، والنصف الآخر فى البحث عنه، بحيث لا يبقى لديه ما يكفى لتنظيم علاقات اجتماعية سوية.. أما اليوم فإن تناول الوجبات الثلاث وما بينها لا يستغرق ساعة او ساعتين.. وهو الزمن الذى لا يكفى للبحث عن فريسة صالحة للأكل فى الزمن الأول.. اما اشعال النار لطهى الطعام فقد كان يستغرق وقتا طويلا فى محاولات بائسة يائسة.. أما اليوم فلا يستغرق الأمر اكثر من اشعال موقد الغاز بعود ثقاب.. ومع ذلك تشير الحفريات إلى ان الإنسان القديم كان سعيدا وجماجمه تحمل آثار ابتسامة راضية.. فهل نشعر بنفس السعادة اليوم.. لا إجابة ولا تعليق.