لم تتوقع الأجيال التى ولدت ونشأت بعد توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل عام 1979، أن تعيش هذه الحقبة الحالية «المؤلمة» من المتغيرات الإقليمية والدولية التى تجعلها تشعر بأنها قريبة جداً من «حافة الهاوية» وأن المنطقة ممكن أن تشهد فى أى وقت نشوب حرب مدمرة وشاملة، ليس فقط بسبب انقلاب إسرائيل على السلام وأطماعها فى احتلال المزيد من الأراضى العربية، ولكن لأن هذه الحقبة تشكل واقعاً مأساوياً ومرحلة استثنائية فى حياة الشعوب العربية، نتيجة التغييب المتعمد لدور المنظمات الدولية وعدم الإكتراث بالقانون الدولى الإنساني، وفى ظل طموحات الهيمنة الأمريكية على العالم والتى وصل بها الحال إلى أن تعمل على تحقيق مصالحها بكافة السبل والوسائل بما فيها إصدار القرارات الاقتصادية الصعبة والابتعاد عن تحالفاتها التقليدية مع أوروبا وغيرها، ثم بالتأييد المطلق لإسرائيل رغم ما قد ينتج عن هذا التأييد من انهيار الشرق الأوسط وضياع الأمن والاستقرار والسلام فى المنطقة.
>>>
لقد حملت الأيام القليلة الماضية حراكاً دبلوماسياً وشعبياً متعدداً وفى أكثر من اتجاه، بهدف إنقاذ السلام ووقف إطلاق النار فى قطاع غزة، ولأجل استعادة ميزان العدالة الذى افتقده العالم على مدى ثمانية عشر شهراً منذ بدء العدوان على القطاع، فقد خرجت المظاهرات المنددة بحرب الإبادة التى تشنها إسرائيل على غزة فى اوروبا وامريكا وآسيا وبكل القارات، وطالب المتظاهرون بكل اللغات وباسم الإنسانية بوقف نزيف الدم فى الأراضى الفلسطينية المحتلة، ودعوا لإنقاذ الأطفال والنساء الذين تقتلهم إسرائيل كل يوم بالمئات، كما ناشدوا ضمير العالم والمنظمات الدولية لفك الحصار عن سكان غزة وإدخال المساعدات ووقف القتل بالجوع والعطش والأمراض، لكن وللأسف لم تسمع الولايات المتحدة ولم يتحرك الضمير الأمريكي، كما لم يعط إشارة بمنع إهدار القيم الإنسانية بقطاع غزة ووقف القتل والدمار.
>>>
فى حراك إنسانى آخر، دعت عشرات المنظمات الحقوقية الدولية، دول العالم إلى اتخاذ إجراءات فورية للضغط على الحكومة الإسرائيلية لرفع الحظرالمروع على المساعدات وتجنب المجاعة الوشيكة بعد أكثر من خمسة أسابيع من منع دخول الإمدادات الإنسانية إلى غزة، حيث لم يُسمح بدخول أى طعام أو ماء أو أدوية أو مواد إيواء أو ضروريات أخرى إلى القطاع منذ إعلان الحصار الكامل واضطرار المخابز للإغلاق بسبب نفاد الدقيق ونقص الوقود، وقالت المنظمات الدولية إن المستشفيات فى غزة تكافح لعلاج المرضى المصابين فى الضربات الجوية العسكرية الإسرائيلية بدون توصيل الأدوية والمعدات الطبية الأخري، وان هذه الضربات أسفرت عن استشهاد ألف شخص منذ خرق وقف إطلاق النار، ما يزيد من إجمالى عدد الشهداء إلى أكثر من 50 ألف شهيد حتى الآن، المفارقة هنا أنه رغم الصوت العالى للمنظمات الحقوقية الدولية ورغم بياناتها المتتالية وتنديداتها المستمرة بالعدوان الإسرائيلى على غزة، إلا أن النتيجة واحدة.. معظم دول العالم فقدت الرؤية والسمع والقدرة على الكلام ومات ضميرها الإنساني.
>>>
حراك ثالث شاركت فيه بعض القنوات الفضائية بتقديم مواد وثائقية وفيلمية تجسد مأساة غزة طوابير للحصول على مياه الشرب بالكيلو مترات، آلاف الفلسطينيين ينتظرون بالساعات لكى يحصلوا علي» جركن مياه صغير» ومخابز متوقفة عن العمل بسبب عدم توافر الدقيق والغاز، هناك فى الشوارع والطرقات جثث للشهداء والأطفال ورجال يتضورون جوعا لهم أيام بلا طعام، قال أحدهم: كنت أحلم بتعليم أبنائى وسفرهم للعمل بالخارج، اليوم أحلم بوجبة طعام وأقصى طموحى أن أحصل على خيمة تعيش فيها أسرتي، الكارثة هنا أن هذه المشاهد الوثائقية والفيلمية المأساوية، لم تحرك ساكنا لأحد فى المنظمات الدولية، وتجاهلها الأمريكيون المنشغلون أصلا بأمن إسرائيل وبالرسوم الجمركية وبتشغيل المصانع والمكاسب والخسائر بالبورصات العالمية.
>>>
فى مصر جاء حراك رابع أكثر رقياً وأهمية لمنع التهجير القسرى ولإنقاذ سكان غزة، الرئيس عبدالفتاح السيسى يستضيف نظيره الفرنسى إيمانويل ماكرون وعاهل الأردن الملك عبدالله الثاني، وطالبت القمة التى ضمت القادة الثلاث فى بيان لها: بالعودة لوقف اطلاق النار فى غزة وضمان إمكانية إدخال المساعدات الإنسانية بالكامل وحماية المدنيين وعمال الإغاثة، كما أعرب القادة عن رفضهم لتهجير الفلسطينيين وأى محاولة لضم أراض فلسطينية، كذلك تمسكهم بالخطة العربية لإعادة الإعمار بغزة ودعمهم لمؤتمر إعادة الإعمار الذى سيعقد فى القاهرة بالمستقبل القريب.
>>>
وحقيقة ، فإنه لا بديل عن إنهاء «مأساة غزة» فى المستقبل القريب، لأن تداعيات استمرارها ستهدد المنطقة والعالم، وستتحمل «أوزارها» الولايات المتحدة وإسرائيل، وكل الدول التى فقدت ضمائرها فى التعامل مع الضحايا الفلسطينيين.