اليوم هو الثمانون للرئيس الأمريكى ترامب فى البيت الأبيض.. كثيرون ينتظرون إتمام المائة يوم الأولى له نهاية الشهر الحالى لتقييم أدائه وإنجازاته مقارنة بوعوده الانتخابية، ومحاولة التنبؤ بما يمكن أن يحققه فى مستقبل أيامه.
أتذكر عندما فاز ترامب فى انتخابات الرئاسة الأمريكية عام ٦١٠٢ لأول مرة، أن فوزه جاء صدمة هائلة لدولة المؤسسات الأمريكية.. فلم يكن فى يوم من الأيام جزءاً منها، ولا حتى مقتنعاً بها، ولا قابلاً لاستمرارها.
كان فوزه، وهو القادم من قطاع العقارات، هزيمة أولى لدولة المؤسسات هذه، ممثلة فى إحدى أهم رموزها.. هيلارى كلينتون، التى قضت ٨ سنوات داخل مؤسسة الرئاسة الأمريكية ـ البيت الأبيض ـ سيدة أولى لأمريكا خلال رئاسة زوجها، وسنوات أخرى فى مؤسسة الخارجية، وزيرة لها فى عهد الرئيس أوباما.
كان فوزه أيضاً هزيمة لتيار كاسح من استطلاعات الرأى العام التى تنبأت جميعاً ـ إلا قليلاً منها ـ بفوز هيلارى وهزيمته.
وقد قضى ترامب عقب ذلك الفوز المائة يوم الأولى له فى البيت الأبيض وقتها وسط صخب وضجيج العدائيات التى أثارها مع كل طوائف ومؤسسات المجتمع والدولة.. تصادم مع المرأة، ومع المهاجرين، خاصة عدد من الدول العربية والإسلامية ومع وكالة المخابرات المركزية، ومكتب التحقيقات الفيدرالي، وغيرها فى محاولة للسيطرة عليها.
وامتدت صدماته وقتها إلى حلفاء أمريكا وأصدقائها وأعدائها جميعاً.. مع حلف الأطلنطى الذى مفترض أن بلاده تقوده، ومع الاتحاد الأوروبي.. ومع الصين، وضد اتفاقيات التجارة مع كندا والمكسيك، ومع دول الباسفيك وغيرها.
وقد ابتدع ترامب فى المائة يوم الأولى تقليداً لم يكن موجوداً فى البيت الأبيض، وهو توقيع الرئيس للقرارات والأوامر التنفيذية أمام كاميرات التليفزيون.. وأضاف تقليداً آخر، وهو إدارة علاقات أمريكا الدولية من خلال التغريدات.
وأثار ذلك شهية العديد من الكتاب والمحللين السياسيين داخل وخارج الولايات المتحدة، فبدأوا يروجون لما أطلقوا عليه اسم «الترامبيزم» أو «الترامبية»، ويؤسسون للنهج الخاص للرئيس ترامب فى إدارة بلاده والعالم، على اعتبار أنه «منشئ» لتيار أو نظرية جديدة فى الحكم.
وظهرت فى الولايات المتحدة وخارجها العديد من الكتب التى تبشر بهذا التيار، وتربطه بصعود أحزاب اليمين فى عدد من الدول الأوروبية بالذات، باعتبار أوروبا الأكثر تأثراً بما يجرى على الشاطئ الآخر من الأطلنطي.
وقضى ترامب فترته الرئاسية تلك كاملة ـ أربع سنوات ـ فماذا حدث؟!
لقد فشل فى إحداث أى تغيير جذرى على دولة المؤسسات داخل بلاده.. قاومته هذه المؤسسات، وصمدت فى وجه محاولاته المستميتة لإخضاعها لحكمه الفردي، وكان على رأسها مجلس النواب الذى كانت أغلبيته من الحزب الديمقراطي، وعلى رأسه «نانسى بيلوسي» إحدى أقوى رموز هذه المؤسسة التشريعية.
وكان أبرز صور هذا الفشل، أن الناخبين الأمريكيين لم يمنحوه هو أو حزبه الجمهورى فى الانتخابات الرئاسية التالية عام ٠٢٠٢ تفويضاً بالاستمرار فى قيادة البلاد، وحرموه من فترة رئاسة ثانية، وجاءوا بمرشح الحزب الديمقراطى بايدن ـ ابن دولة المؤسسات وصنيعتها بدلاً منه.
وعادت أمريكا لما كانت عليه.. دولة المؤسسات التقليدية الراسخة.
واكتشف العالم، وأن الرئيس ترامب «ظاهرة فردية» عارضة وليس تياراً قادراً على إحداث تغيير، لا داخل الولايات المتحدة، ولا فى النظام العالمي.
الآن عاد ترامب بنفس الصخب والضجيج الذى بدأ به فترة رئاسته الماضية، ولكن بقدر أكبر من الغرور الذى استمده من فوزه الكاسح فى الانتخابات الرئاسية على بايدن ونائبته كامالا هاريس معاً، والتفويض الذى منحه الناخبون لحزبه الجمهورى للسيطرة على الكونجرس بمجلسيه ـ النواب والشيوخ.
عاد أيضاً ببعض دروس فترته السابقة فى الصراع مع مؤسسات الدولة.
عاد بأفكار أكثر تطرفاً وعدائية.. أفكار كفيلة إذا نجح فى تنفيذها، بهدم الأسس القانونية للنظام الدولى القائم وتحويل المجتمع الدولى إلى غابة.
جمع فريقاً من الأتباع أو الشركاء الموالين شخصياً له ليوزعهم على مراكز القيادة فى وزارة الدفاع ـ البنتاجون، ووزارة الخارجية، ووكالة المخابرات المركزية، ومكتب التحقيقات الفيدرالي، والأمن القومى لينفذوا مخططه فى النفاذ إلى أعماق هذه المؤسسات، و»غربلتها» وتقويض ما يسميه الدولة العميقة، بغض النظر عما إذا كان لأى من هؤلاء سابق خبرة كافية بالمجال الذى أوكل إليه.. لأن الأولوية لدى ترامب هذه المرة هى للولاء الشخصي.
ورغم أن حزبه يسيطر على الكونجرس، فإنه لم يهتم بإشراكه فى قراراته وأوامره التنفيذية، لدرجة أن العديد من الأعضاء بدأوا الشكوى من تجاهله للسلطة التشريعية، ومنهم جمهوريون بارزون.
وفى ثمانين يوماً فقط نجح ترامب فى أن يحدث فوضى عالمية غير مسبوقة، بتعريفاته الجمركية التى تهدد النظام الاقتصادى العالمى وقواعد التجارة الدولية، وبإعلانه رغبته فى ضم كندا وتحويلها إلى ولاية أمريكية، والاستيلاء على جزيرة «جرنيلاند» التابعة للدنمارك، وتحويل قطاع غزة إلى «ريفييرا عالمية»، وتوزيع شعب بأكمله هو الشعب الفلسطينى على الدول المجاورة، أو غير المجاورة التى يمكن الاتفاق معها على قبوله!!!
وكل ذلك تحت شعار أنه جاء لإحلال السلام فى العالم، وتسوية النزاعات الرئيسية، التى فشل المجتمع الدولى فى تسويتها!!
وقد نجح حتى الآن فى شيء واحد، أنه يضيف كل يوم خصوماً جدداً للولايات المتحدة بصورة غير مسبوقة.
وأنه يدفع بمصداقية بلاده ومصداقيته الشخصية إلى التآكل.
سوف يجنى تريليونات الدولارات من الرسوم الجمركية، لكنه سيقضى فترته الرئاسية الحالية كلها فى صراع داخلى وخارجي، يستنفذ هذه الحصيلة.
وسوف يمضى ترامب عند نهاية فترته وتعود أمريكا لما كانت عليه، ويصحح العالم ما أفسده.
وسوف يقول الأمريكيون: «لا ترامب آخر».. كما يقول أهل غزة والضفة فى فلسطين: «لا أرض أخري».