أمران فى غاية الخطورة فيما يتصل بالخطاب الديني، هما الجهل والمغالطة، أما الأول فداء يجب مداواته بالعلم، وأما الثانى فداء خطير يحتاج إلى تعرية أصحابه، وكشف ما وراء مغالطتهم من عمالة، أو متاجرة بالدين.
ومن أخطر القضايا التى لعبت عليها أو بها جماعات أهل الشر «تصرفات الحاكم» سواء بالافتئات عليها أم بمحاولة تشويه تصرفاته .
وقد أدرك علماؤنا القدماء طبيعة الفرق بين ما هو من اختصاص الحاكم، وما هو من اختصاص العالم، وفرقوا بدقة بين ما تصرف فيه النبى (صلى الله عليه وسلم) بصفة النبوة والرسالة من شئون العقائد والعبادات والقيم والأخلاق، وما تصرف فيه (صلى الله عليه وسلم) باعتبار الحكم أو القضاء، فالنبى (صلى الله عليه وسلم) لم يكن نبيا ورسولا فحسب، إنما كان نبيا ورسولا وحاكما وقاضيا وقائدًا عسكريًّا.
فما تصرف (صلى الله عليه وسلم) فيه باعتباره حاكمًا أو قائدًا عسكريًّا أو قاضيًا بقى من شروط وضرورات التصرف فيه توفر الصفة الأخري، وهى كون المتصرف حاكمًا أو قائدًا عسكريًّا أو قاضيًا، بحسب الأحوال.
ومما تصرف فيه النبى (صلى الله عليه وسلم) باعتباره رسولاً وحاكمًا معا قوله (صلى الله عليه وسلم): (مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ). يقول الإمام أبو حنيفة (يرحمه الله): «هذا منه (صلى الله عليه وسلم) تصرف بالإمامة -أى بصفته حاكمًا-، فلا يجوز لأحد أن يحيى أرضًا إلا بإذن الإمام، لأن فيه تمليكًا، فأشبه الإقطاعات، والإقطاع يتوقف على إذن الإمام فكذلك الإحياء».
وعليه؛ لا يجوز لأحد أن يضع يده على قطعة من الأرض، ويقول: «أحييتهــا فهى لي، وبينى وبينكم حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم)»، فنقول له: «إن النبى (صلى الله عليه وسلم) تصرف فى ذلك بصفته حاكمًا، فلا يجوز لغير الحاكم إصدار مثل هذا القرار المتعلق بالحق العام، أو المال العام، أو الملك العام، وإلا لصارت الأمور إلى الفوضي، وفتح أبواب لا تسد من الفتن، والاعتداء على الملك العام، وربما الاحتراب والاقتتال بين الناس، إنما يجب أن يُلتزم فى ذلك بما توجبه الدساتير والقوانين التى تنظم شئون البلاد والعباد».
وما تصرف فيه النبى (صلى الله عليه وسلم) باعتباره قاضيًا لا يُبنى الأمر فيه على رأى العالم، ولا حتى رأى القاضى المجرد من الأدلة والقرائن والشهود، إنما يُبنى على ما يقتضيه أمر القضاء من البينة أو الشهود وسائر القرائن المعتبرة. وقد رجح جمهور الأصوليين والفقهاء عدم جواز قضاء القاضى بمجرد علمه دون إقامة الدليل أو وجود الشهود أو توفر القرائن.
ومن أهم القضايا التى ترجع إلى رأى الحاكم – لا إلى رأى القاضي، ولا رأى العالم، ولا أحد غير الحاكم – قضية إعلان حالات الحرب والسلم المعبر عنها فى كتب الفقه بالجهاد الذى هو بمعنى القتال، والذى شُرّع للدفاع عن الأوطان والدول من أن تُستباح، فليس لآحاد الناس أو لحزب أو لجماعة أو لفصيل أو لقبيلة إعلان هذا الجهاد، إنما هو حق لولى الأمر، وفق من أناط به دستور كل دولة ذلك، وأعطاه الحق فى إعلان حالة الحرب والسلم، سواء أعطاه الدستور لرئيس الدولة، أم لمجلس أمنها القومي، أم للرئيس بعد أخذ رأى برلمانها.
المهم أن قضية إعلان حالة الحرب والسلم ليست ملكًا للأفراد أو الجماعات أو الأحزاب أو القبائل، إنما هى من تصرفات الحاكم التى لا يجوز الافتئات عليه فيها، وإلا أصبح الأمر فوضى لا دولة.