موائد الرحمن تقليد لا تكاد تجده إلا فى مصر ، وهى عادة أصيلة ليست وليدة اليوم بل متجذرة فى مجتمعنا منذ زمن بعيد، فيها يتكافل الناس ويتراحمون فيما بينهم، يطعمون فيها الفقير والمحتاج وعابر السبيل، تعطى لشهر الصيام مذاقًا فريدًا يفيض بالرحمة والتواصل.
صحيح أن موائد الرحمن لم تعد بنفس زخمها وانتشارها فى كل أحياء مصر،..لكن ورغم ذلك فإن إفطار المطرية مشهد يستحق الإعجاب حقًا..ويستلزم التأمل؛ فها هو حى شعبى يسكنه مواطنون ليسوا من الأثرياءلكن عطاءهم نموذج مدهش يرسم لوحة جميلة تعيدنا للزمن الجميل الذى كان البسيط يجد متسعاً فى قلوب القادرين فلم يكن يبيت جائعاً وجاره شبعان..
ما يدهشك فى مشهد إفطار المطرية أنه بورتريه جميل رسمته قلوب صادقة لا تهوى الشو الإعلامى ولا تحب الظهور ولا الأضواء، قلوب لا يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا ولا حتى بما يفعلون رغم أنهم يستحقون الإشادة والشكر معاً.
عظمة مشهد المطرية أنه يرتفع فوق صعوبات الحياة فى توفير مستلزمات الإفطار الرمضانى الكبير مع قدرة فذة على التنظيم بلا قائد، ثمة مجموعات تناغمت واجتمعت لهدف نبيل لا يهمهم إلا أن يخرج المشهد معبرًا عن حس إنسانى يفيض حبًا لعمل الخير ويذوب عشقًا لإنكار الذات..ولا تكاد تلمح فى تلك السيمفونية العظيمة متصدرًا واحدًا للمشهد تستطيع أن تنسب إليه مثل هذا الحدث الإنسانى الرائع ..الكل ينضوى خلف الحدث ليظل هذا الحدث هو البطل الأوحد.
ربما لا تكون الأحوال المادية لأهالى عزبة خير الله صاحبة الإفطار الرمضانى الأكبر والأشهر ليس فى مصر وحدها بل فى العالم العربى والإسلامي، أفضل من أهالى التجمع الخامس مثلاً ولا مصر الجديدة ولا غيرها من الأحياء الراقية التى ستجد فيها حتماً من يصنعون الخير بلا توقف ..لكن هذا الحرص الجماعى على تقديم مأدبة طعام للصائمين بهذا الحجم الكبير هى رسالة تقول بوضوح إن معادن المصريين لا تغيرها الظروف مهما تكن صعبة، وأنهم قادرون دائمًا على كتابة التاريخ فى كل وقت وحين.
مشهد مبدع لا تخطئه العين فى إفطار المطرية مشهد مبدع لا تخطئه العين، وفيه من الرسائل ما فيه، وهو مشهد يدعونا للفخر والثقة فى عظمة هذا الشعب الذى قد يضعف أو يمرض لكن روحه الحضارية الفذة لا تموت.. فرغم ضخامة الحدث فإنه خرج للنور برعاية الناس أصحاب الحى، ثمة خلايا نحل، مجموعات منظمة بدقة، شباب وفتيات، نساء ورجال، شيوخ وأطفال، الكل يعمل فى نسق منتظم يجمعهم حب شديد لما يعملون، وتعاون منقطع النظير، كل فرد يعرف دوره وملتزم بتنفيذ المطلوب منه..صحيح أن لكل مجموعة قائدًا، ولكل شارع مسئول، ولكل مهمة مُشرف..التفاصيل غاية فى الإتقان والإبهار وفيها تسكن العظمة وتتجلى الروعة، بداية من تنظيف الشوارع ورسمها وتلوينها، وتعليق الزينة والأنوار، وشراء الخضار والفاكهة واللحمة والفراخ، وتوزيعها على البيوت لتجهيزها، كل بيت يعرف ما هو المطلوب منه وأى أصناف ستخرج منه، معروف من سيتسلم الطعام من المنازل ومن سيضع الأصناف المختلفة فى الأطباق ومن سيغلف تلك الأطباق ومن سيضعها على الموائد وكيف سيضعها..من سيوزع كراتين المياه ومن يوزع العصائر وفى أى شارع ..ثم تجد مجموعات من الشباب تتولى تنظيم دخول الناس وجلوسهم ومجموعات أخرى لتسهيل حركة المرور..لا شيء عشوائيًا ..كل شيء مدروس ومخطط بعناية مسبقا وربما تم التدريب عليه حتى لا يترك للعشوائية والمصادفة.
هذه هى روح مصر وعبقرية مصر التى يخشاها من لا يرجون لها خيرًا..إفطار المصرية رغم أنه عمل خيرى يحتضن آلاف المواطنين مسلمين ومسيحيين، أغنياء وفقراء أتوا من كل حدب وصوب ليتنعموا بأجواء روحانية رمضانية، جاءوا ليتنسموا روح الأخوة وينهلوا من نفحات الشهر الكريم ليضربوا المثل فى المودة والمحبة ،والترابط والتلاحم والتكافل وحب الخير رغم قسوة الظروف الاقتصادية..وهذا رسائل مهمة جاءت من حى واحد فى القاهرة فلا تستهينوا بقدرة المصريين وحكمة هذا الشعب العظيم.
تحية لأهالى المطرية ولكل من شارك فى «لمة العيلة» المصرية فى رمضان الذين جددوا فينا الأمل، وأعادوا للشهر الكريم روحه وبهجته التى تأثرت بفعل ما يجرى لأشقائنا فى غزة من جرائم دموية من احتلال غير أخلاقى وغير إنساني..والأهم أن أهالى المطرية لم ينسوا أهالى غزة المكلومين المحاصرين فى خندق الجوع والقتل والمرض، وأقل ما يمكن أن يفعله هذا الجمع الطيب الذى نرفع له القبعة إجلال وتقديرًا لحسن صنيعه..فتحية لأهل المطرية الذين لم تغيرهم الأزمات ولم تثنهم الظروف الاقتصادية عن تنظيم أكبر وأعظم مائدة إفطار فى العالم.