لا تكاد توجد منطقة فى العالم كله تتعرض لما تتعرض له منطقتنا العربية وشعوبها من ويلات وانتهاكات وانتكاسات بفعل قوى داخلية وقوى خارجية معاً.
من الصعب تحديد تاريخ بداية هذه الحالة.. لكن دعونا نأخذ المثال الأقرب الذى عشناه جميعاً.
لقد دخلت منطقتنا العربية القرن الحالى وهى تحلم بانفراجة تصلح أحوالها وتتحدث عن عام 2000 وكأنه يحمل لدولها وشعوبها طوق نجاة، فإذا هو يحمل لها عاصفة عاتية من الأحداث لم تتوقف حتى الآن.. ما بين أحداث 11 سبتمبر التى استهل بها القرن الحالى أيامه فى أمريكا، ثم أحداث ما سمى بـ»الربيع العربي« عام 2011 وما بعدها.
لقد دفع هذان الحدثان بنحو ثلث دول المنطقة خارج نطاق الخدمة.
وفى منطقتنا العربية الدولة التى تخرج من نطاق الخدمة لا تعود.. فما أسرع وأسهل من أن تتحول إلى ساحة مستباحة لعبث العابثين وطمع الطامعين من داخلها ومن خارجها حتى يأتيها أمر الله.
فى التاريخ الحديث والمعاصر عرفنا نموذج دولة تغزو دولة أو تحالفات من عدة دول تحارب تحالفاً مضاداً كما حدث فى الحرب العالمية الثانية مثلاً بين جبهة الحلفاء ودول المحور.
لكن فى منطقتنا وحدها قادت أمريكا القوة العظمى الأولى فى العالم تحالفاً من القوى الكبرى وغير الكبرى لتغزو دولة كما حدث للعراق.
وتم استحداث نمط جديد صمم خصيصاً لدولنا وهو نموذج »الاحتلال الجماعي« لأراضى دولة واحدة بصورة متزامنة الذى تعرضت له سوريا الأسد حيث شهدت وجوداً عسكرياً أمريكياً وروسياً وإسرائيليا وعدة دول إقليمية، وكل استقل بقطعة منها.. بالإضافة إلى التنظيمات الإرهابية.. القاعدة- داعش وغيرها!!
سبق أن أطلق البعض على منطقتنا »منطقة الفرص الضائعة« وهو وصف صحيح لكن ليس الوحيد.. فكثير مما فيها ضائع أو مهدر أو منتهك ابتداء من الثروات البشرية إلى الطبيعة إلى القوانين الدولية.
أعداد القتلى والمصابين والمهجرين من ضحايا الحروب والصراعات فى نفس الفترة تقدر بالملايين، رغم أننا لسنا فى حرب عالمية بينما المهدر من ترواتنا الطبيعية يقدر بآلاف التريليونات.
أما القوانين الدولية فتطبيقها »انتقائي« وفى ظل وجود مبدأ »لا مساس بإسرائيل« وهو مبدأ صاغته أمريكا وتحرص على حمايته والدفاع عنه فى كل الظروف.
وما يجرى الآن من استئناف إسرائيل لحرب الإبادة الجماعية على الشعب الفلسطينى فى غزة والضفة الغربية رغم وقف إطلاق النار وسقوط مئات الشهداء وآلاف المصابين هو أحدث مثال على كل ذلك.
مشهد عبثى يدور تحت سمع وبصر العالم وكل منظماته العالمية والإقليمية ومحاكم العدل والجنايات الدولية.. تعالوا نفكك فقرات هذا المشهد لنرى مدى عبثيته.
اتفاق لوقف إطلاق النار على ثلاث مراحل كل مرحلة منها اثنان وأربعون يوماً، وتتضمن التزامات متبادلة ومتزامنة بين طرفيه، إسرائيل والمقاومة الفلسطينية.
الاتفاق تم برعاية مصرية قطرية أمريكية وضمانها هى دول الوساطة بين الطرفين وشهدت عليه إدارتان أمريكيتان.. إدارة بايدن الديمقراطية التى أنجزته وإدارة ترامب الجمهورية الذى قال إنه من قام بتفعيله.
القضايا الرئيسية للاتفاق تشمل تبادل المحتجزين لدى المقاومة من إسرائيليين وأجانب مقابل الأسرى الفلسطينيين لدى إسرائيل، وانسحاب القوات الإسرائيلية من القطاع.
تم تنفيذ المرحلة الأولى من الاتفاق بالتزام كامل من المقاومة الفلسطينية وتسليم كافة المحتجزين لديها المنصوص عليهم فى المرحلة الأولى من الاتفاق رغم خروقات ومماطلات إسرائيلية فى تنفيذ ما عليها فى المقابل.
انتهت المرحلة الأولى وحان وقت التفاوض وعلى الإجراءات التنفيذية للمرحلة الثانية التى تضم الجزء الثانى من صفقة التبادل.
هنا بدأ نتنياهو يتمرد على الاتفاق ويطلب تمديد المرحلة الأولى من الاتفاق وأن يحصل خلالها على كل ما تبقى من محتجزين لدى المقاومة أى إنهاء قضيتهم تماماً قبل بدء المرحلة الثانية للاتفاق.
تضامن الرئيس ترامب مع نتنياهو وأصدر أمراً للمقاومة الفلسطينية بتسليم بقية المحتجزين جميعاً لديها وإلا سيفتح عليها أبواب الجحيم وفوض نتنياهو بهذه المهمة وقال إنه أمره بكل ما طلبه لإنهائها وبدأ نتنياهو بالفعل استئناف الحرب وفرض الحصار الكامل على غزة.
بدأت جهود الوساطة من جديد لوقف الحرب والعودة للاتفاق.. ولم تنجح حتى كتابة هذه السطور.
وهنا تثور الأسئلة:
> > لماذا اللجوء لإنهاء قضية المحتجزين بالقوة العسكرية المدمرة لغزة والمحفوفة بالمخاطر على حياة وأرواح المحتجزين انفسهم، بينما الحل السلمى للقضية موجود فى اتفاق اطلاق النار الموقع عليه من جميع الاطراف، والذى التزمت المقاومة الفلسطينية بتنفيذ ما يخصها فى مرحلته الاولى وتعهدت بالالتزام بكافة مراحله؟!
> كيف للضامن والوسيط الرئيسى فى الاتفاق ان ينقلب عليه، وينحاز للطرف الذى يريد نسفه ويحرضه على ذلك بما يتعارض مع اى معايير او قواعد يجب ان يتحلى بها اى وسيط فى اى قضية؟!
> كيف يقبل المجتمع الدولى استئناف حرب الابادة والتجويع والتهجير ضد طرف كل ما يطلبه هو تنفيذ اتفاق تم برضاء الجميع ولم يفرضه عليهم احد؟!
> ما الذى تركه الوسيط والضامن الرئيسى للاتفاق للوسيطين الاخرين: مصر وقطر ليفعلاه لوقف الحرب وهى التى تتم تنفيذا لأوامره؟!
> كيف يطلب من الطرف المتمسك بالاتفاق تقديم اى تنازلات لاسترضاء الطرف المعتدى لوقف الحرب والعودة للاتفاق، بينما لا توجد اى ضمانات لالتزام جماعى من كل الاطراف المعنية به؟!
أليس هذا قمة العبث فى منطقتنا العربية المنكوبة؟!