قال إحسان عبدالقدوس إن الذين يبحثون عن الراحة فى مكان هادئ مخطئون لأن الهدوء لا يريح الأعصاب بالعكس إنه أكثر إرهاقاً للأعصاب وللعقل من الضجيج فالراحة الحقيقية هى أن ترتاح من نفسك وتنشغل عنها بغيرك جاء ذلك فى رواية ثقوب فى الثوب الأسود وقال أيضاً فى رواية العذراء والشعر الأبيض.
عندما يكون الأب رئيساً.. هل يظلم أبنائه أم يظلمه أبناؤه؟!
لكن خالد النبوى وجد نفسه أمام صندوق انتخابات وأن ابنه الأكبر ينافسه بل ويفوز عليه فيما يشبه الإجماع.. وإذا كانت فاتن حمامة قد واجهت نفس الشيء مع أولادها فى الفيلم المأخوذ عن نفس رواية عمنا الكاتب العملاق إحسان عبدالقدوس «إمبراطورية ميم» فإن المسافة بين حالة الأم ثم حالة الأب فى المسلسل المأخوذ عن نفس الرواية.. هذه المسافة زمنية هى 52 سنة لكنها أكبر من ذلك بكثير لأن أولاد النبوى فى المسلسل حتى أكبرهم فتحوا أعينهم على تطور تكنولوجى رهيب.. بينما عيال فاتن.. كان كبيرهم الراديو والتليفزيون عمره وقتها 12 ساعة يغلق قناتيه الأولى والثانية عند منتصف الليل وشدوا اللحاف وقاموا ومن يمتلك عدة تليفون بقرص.. من كبار القوم.. لهذا تصلح هذه الرواية أكثر من غيرها أن تعاد وفى عبوة تليفزيونية تتسع للعيال ومشاكلها.. والأب الذى يجد نفسه فجأة وقد دق قلبه لجارته الحسناء المطلقة بمشاكلها مع طليقها أبو ابنتها.
فهل تختلف تربية أبناء طبقة مستريحة تسكن المعادى فى قطاعها الراقي.. عن تربية عيال شبرا وإمبابة وباب الشعرية.
لأول وهلة قد يقول القائل:
طبعاً تختلف ظروف هؤلاء عن غيرهم مع أن مبادئ التربية واحدة والخطأ معروف والصواب معروف والحلال بين والحرام أيضاً لذلك يكتسب مسلسل «إمبراطورية ميم» أهمية خاصة لأنه يليق جداً بدراما التليفزيون التى تدخل البيوت والعشش.. وعلى الأرصفة مجاناً وتخاطب الجميع كبيرهم وصغيرهم وغنيهم وفقيرهم بلا استثناء.
بابا الإمام
بعد رسالة الإمام التى قدمها خالد النبوى فى العام الماضى ووجدت ترحيباً هائلاً من غالبية الجمهور والنقاد لأننا فى أشد الاحتياج لمثل هذا النوع من الدراما التى تلقى الضوء على أحداث وشخصيات من تاريخنا الفرعونى والعربى والأفريقى والإسلامى وما أكثرها.. لكى نعوض غياب القراءة.. بالسعى خلف الصور الثابتة والمتحركة على السوشيال ميديا والدراما وهى أكثر تأثيراً.. ولم أبالغ عندما قلت أكثر من مرة أن الدراما أمن قومى واجتماعى ونفسى وهى المحور الأهم فى مسألة صناعة الوعى عند المواطن.
وجود النبوى بحيويته وخبراته ساهمت كثيراً فى خروج العمل بصورة مشوقة.. لأن أولاده يمثلون شرائح عمرية وتعليمية مختلفة منهم من لم يبلغ الابتدائى ومنهم الإعدادى والثانوى ودكتورة الجامعة وفيهم المسالم والمعاند والطموح والمهمل.. ووجود العمة والخال والجدة للأم.. كان ضرورياً لصناعة مسلسل بألوان مختلفة لكنها تصب فى المجرى الرئيسى الذى حاولت دراما 2024 أن تتوغل فيها من زوايا مختلفة.. وراجع مسلسلات:
بابا جه/ كامل العدد/ أشغال شقة/ عتبات البهجة.. مع اختلاف القصة.. لكن الأبناء يشكلون حكايات هذه المسلسلات وما أكثر مشاكل أولادنا فى هذا العصر وانفتاحهم على الدنيا من حولهم.. وما علينا إلا أن نربى ضمائرهم قبل أن نصدر فرمانات المنع والعقاب التى لم تعد مجدية.. وكما قال الفخرانى لحفيده: لسنا أحسن منكم بل نتعلم منكم كما نعلمكم.. وهذا ما رأينا النبوى يفعله مع أولاده بمبدأ الثواب والعقاب.. ويحسب للكاتب محمد سلمان عبدالمالك.. والمخرج محمد سلامة وطاقم العمل من تصوير ومونتاج وموسيقى وديكور وملابس وإنتاج وتمثيل.. هذا الجهد ولو أنى مازلت أسجل اعتراضى على إعادة الأفلام القديمة.. فليست كلها مثل «إمبراطورية ميم» بموضوعها الذى أتمنى تقديمه بعد عشرين سنة.. أو أكثر.. لنرى كيف تفعل بنا الحياة.. داخل بيوتنا.. ويهرب الأب إلى ذكرياته مع زوجته الراحلة وكأنه يستمد من تلك الذكريات قوة دفع تساعده على التعامل مع هؤلاء الأبالسة ابتداء من صغيرهم المنكوش كأنه رسم كارتونى والعبقرى الأكبر منه قليلاً الذى يستخدم نظارته مثل كبار المفكرين ثم الابنة المتمردة لاعبة الكرة المسترجلة التى حلقت شعرها كاملاً إعلاناً صريحاً عن ذلك.. ثم الأخت دكتورة الجامعة التى تسعى للسفر إلى بعثة خارجية يرفضها الوالد.. ثم العمة نشوى مصطفى التى تميل إلى التعاطف مع أخيها.. لكنها ولهانة فى محبة أولاده.. ونفس الحال للخال.. صاحب الشوارب الغليظ (محمود حافظ) الذى ينادى أمه بمامي.. وبما يلخص شخصيته مع احترامنا لشنبه.. وهو ممثل جيد مفيش كلام وأثبتوا جميعاً هلا شيحة/ نشوي/ حافظ/ محمد محمود عبدالعزيز فى دور مختلف عرف كيف يمسك به.. ومايان السيد التى تمثل بثقة وإيمان السيد الكوميدية التى لم تأخذ حظها كما ينبغى والأولاد هاجر السراج / منى أحمد زاهر أفضل بنات أبيها فى مجال التمثيل/ أدم وهدان/ إلهام صفى الدين.
يضاف إلى هؤلاء «نور» النبوى الذى يواجه أباه محافظاً على تلك الشعرة التى تفصل بين الاحترام الواجب وأن يكون له رأيه الخاص حتى لو نزل الانتخابات أمام والده.. وتؤدى ليلى عز العرب دور الحماة المتسلطة التى تشعر بأن زوج ابنتها كان سبباً فى موتها وهى تعرف أن الأعمار بيد خالقها ورغم مشاهد سولاف فواخرجى القليلة لكنها أضافت إلى تلك المشاهد التى رسمها سلامة المخرج فى برواز رومانسى جميل.
والإمبراطورية على هذا النحو فى عام 2024 حافظت على مسار القصة الأصلية القصيرة التى صدرت ضمن مجموعة بنت السلطان لإحسان عبدالقدوس مع 33 قصة أخري..
وفى ظل العنف والحرق والانتقام يأتى هذا المسلسل برداً وسلاماً على جماهير المشاهدين.