مشكلة الفكر الدينى وتطويره، أو مشكلة النهضة المنشودة والتى يحلم بها العالم الإسلامى منذ زمن بعيد لا ترجع لسوء فى الاجتهاد أو لعدم وجود مصلحين أو لأن المصلحين ليسوا على المستوى الذى يصنع نهضة حقيقية لأمة تتعثر كلما قامت حتى بدت وكأنها تتحرك فى مكانها ولا تتركه قيد أنمله فى الوقت الذى تتحرك فيه بقية الأمم فى سرعة لا يستطيع النظر المجرد اللحاق بها.
فالأمة الإسلامية مليئة بالمصلحين الحقيقيين وجاءها من المصلحين والمجددين على مدى تاريخنا الكثير، وليس هذا فقط، بل إن الله سبحانه وتعالى وعدها بمن يجدد أمر دينها كل مائة عام، أى أن المصلحين والإصلاح قدر إلهى، وهو ما جاء على لسان نبينا صلوات الله وسلامه عليه فيما رواه أبو داوود: «إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا».
لكن لماذا تظل هذه الأمة تراوح فى مكانها، وإذا تحركت للأمام عادت بمقدار هذه الحركة إلى الخلف أو يزيد.
المشكلة فيما هو واضح للمتابعين فى عملية صراع فكرى بين قوى مهيمنة غربية تشعر بخوف شديد من قيام الأمة الإسلامية وتحرص على بقائها منحنية لا تقف ولا تموت وبين قوى منهكة مخترقة فكرياً كلما حاولت القيام ضيق عليها من خارجها ومن داخلها ممن تشربوا الفكر الغربى وأصبحوا يمثلونه لدينا ويقاومون من أجل ترسيخه وهو أمر بدأ العمل به كما يقول الكثيرون منذ نهاية حملة لويس التاسع وعودته إلى فرنسا بعد إطلاق سراحه من دار بن لقمان فى المنصورة وإعلانه إن الصراع الذى يمكن للغرب أن يسيطر به على العالم الإسلامى يجب أن يكون فكرياًً. فاشتغلت القوى الغربية على هذا الخط والمنهج وجاءت الحملة الفرنسية 1798م محملة بالعلماء فى كل شىء مجهزة بالمطبعة التى ستغزو عقول المصريين وتهزمهم فكرياً وجاء نابليون بالإدعاء الأكثر تأثيرًا والمتمثل فى إعلان إسلامه والاحتفاء بالمناسبات الدينية وهو ما لم يصدقه المصريون، لكن هذه الجهود أتت ثمارها على المدى البعيد، فكلما ظهر مصلح داعيا إلى نهضة حقيقية ظهر من يسفه إصلاحه بل ظهر من يجره إلى صراع جانبى يفسد عليه منهجه ويدخله فيما لا شأن للمصلحين به، وكلما تحرك شعب إلى الأمام وجدنا من أبنائه من يشده إلى الخلف.
وبعد أن احتلت الدول الاستعمارية بلادنا فى القرن الماضى والقرن الذى قبله كان همها الأول تغريب المجتمعات وصناعة مؤمنين بفكرها ومحاربة قيمنا وتراثنا واتهامه بالتخلف والرجعية ونشأت لدينا المدارس والجامعات الغربية التوجه والقيم وساند الغرب خريجيها وساعدهم فى السيطرة على المفاصل الفكرية للدولة. فلا يظهر من يريد أن ينطلق بالأمة من خلال تراثها كالإمام محمد عبده مثلاً إلا حورب حرباً شعواء وبدلاً من أن يتفرغ لمهمته انشغل بحروب فكرية لا نهاية لها وليس هذا فقط وإنما يتم تقزيم المجتهدين الحقيقيين فى مقابل تلميع وتنجيم أصحاب التوافه وشاغلى العقول بها وصانعيها. وكلما اجتهد المجتهدون بمنطق العقل والنقل فى إطار المقاصد العامة للشرع ظهر من يسفه هذا الجهد ويدعو إلى ما يسميه اجتهادا ينسف ثوابت الدين. وعلى الناحية الأخرى يظهر وبقوة من يدعو إلى جمود لا علاقة له بالعقل ولا بالنقل وينتشر ويجد من يدعمه مادياً ودعائياً حتى ليبدو أن هذه الأمة بلا عقل رشيد. فيقوم المتفلتون من الدين بالاحتجاج بهذا الجمود على صواب منهجهم ويقوم الجامدون بالاحتجاج على صواب منهجهم بما يطالب به دعاة التفلت من الثوابت ويضيع الاجتهاد الحقيقى ويفت صوته ويقع الشباب فى حيرة مهلكة. فإذا أضفنا جهود أعدائنا فى تغذية هذا الهرج الفكرى والفوضى القاتلة أدركنا أن آلامنا ستطول وثباتنا فى نقطة دون حركة والعالم يتحرك بأقصى سرعة ليس من فراغ.