تظل مصر عبر تاريخها الطويل نموذج للحفاظ على هويتها المصرية.. وشخصيتها الوطنية فى ظل صراع الهوية الذى استهدف الوطن العربى بشراسة منذ بداية الألفية الثالثة، حيث إننا نعيش فى العالم العربى أزمة تكاد تكون دائمة وجرحا مفتوحا.. إنه صراع الهوية، وهو نتاج تراكمات تاريخية ممتدة.. بعضها ضارب فى عمق الاستعمار الذى أعاد رسم الخرائط دون اعتبار للحقائق الثقافية والاجتماعية، وبعضها الآخر وليد أزمات داخلية لم تجد طريقها للحل، فتفاقمت حتى أصبحت نارًا تحت الرماد.
لقد كان العالم العربى، عبر تاريخه الحديث، ساحة لصراع متعدد المستويات: بين القومية والإقليمية، بين التراث والحداثة، بين الدين والسياسة، وبين الولاء الوطنى والانتماء الطائفى أو العرقى.. هذه التناقضات لم تكن مجرد قضايا فكرية، بل تحولت إلى معارك دموية فى بعض الدول.
فى الدول التى تعانى من صراع الهوية، مثل العراق وسوريا واليمن وليبيا، لم يكن الانفجار وليد لحظة، بل سبقه انهيار بطىء للدولة الوطنية، حيث ضعفت المؤسسات، وتمزقت الهياكل السياسية والاجتماعية، وتغلغل الانقسام فى النسيج الاجتماعى. فى هذه الدول، ولم يعد السؤال عن الهوية مجرد استفسار ثقافى، بل أصبح سلاحًا فى يد القوى المتناحرة، يستخدم لتحشيد الأنصار، وإقصاء الخصوم، وإعادة رسم حدود النفوذ.
فى العراق ـ على سبيل المثال ـ كان سقوط الدولة عقب الغزو الأمريكى عام 2003 إيذانًا ببدء صراع الهوية بين المكونات المختلفة، حيث أُعيد رسم المشهد السياسى على أسس طائفية وعرقية.
وفى سوريا، تحولت انتفاضة شعبية إلى حرب أهلية شرسة، كان أحد محاورها الأساسية سؤال الهوية: هل سوريا دولة عربية؟ أم فسيفساء طائفية وعرقية؟ هل الأولوية للانتماء الدينى أم للمواطنة؟
أما فى ليبيا واليمن، فقد كان غياب الدولة الحديثة بالمعنى المؤسسى سببًا فى أن يصبح الصراع على الهوية جزءًا من صراع أكبر على السلطة والموارد.
إن أحد أكبر التحديات التى تواجهها الدول العربية هو كيفية التوفيق بين الهوية الوطنية الجامعة والتنوع الاجتماعى داخلها، هناك من يرى أن الهوية يجب أن تكون صافية، منتمية إلى عرق أو دين معين، بينما هناك اتجاه آخر يدعو إلى أن تكون الهوية مرنة، قادرة على استيعاب التنوع دون أن تتفتت الدولة.
التجربة أثبتت أن الدول التى اختارت الانغلاق على هوية واحدة، سواء كانت دينية أو قومية، دخلت فى صراعات داخلية، لأنها لم تستطع استيعاب الاختلافات الطبيعية بين مكوناتها، بينما الدول التى استطاعت خلق هوية وطنية تتسع للجميع، مثل مصر وتونس والمغرب، حافظت على قدر من الاستقرار رغم التحديات.
إن الحل لا يكمن فى فرض هوية واحدة بالقوة، ولا فى ترك الساحة للفوضى، بل فى إعادة بناء الدولة الوطنية على أسس حديثة، تجعل المواطنة هى الأساس، وليس العرق أو الدين أو الطائفة، كما أن التعليم والإعلام والسياسات الثقافية يجب أن تلعب دورًا فى ترسيخ مفهوم الهوية الوطنية الجامعة.