عندما يصل هذا المقال للقارئ، ستكون المباحثات التى استضافتها المملكة العربية السعودية أول أمس ـ الثلاثاء ـ بين وزير الخارجية الأمريكى والرئيس الأوكرانى زيلينسكى قد انتهت وظهرت نتائجها.
وقد أعلن وزير الخارجى الأمريكية لدى وصوله إلى السعودية أن هدف بلاده من هذه المباحثات التعرف على رؤية الرئيس الأوكرانى لكيفية إنهاء الحرب مع روسيا، وما هى التنازلات المستعد لتقديمها للوصول إلى ذلك.
بينما وصف الرئيس الأوكرانى المباحثات قبل أن تبدأ بأنها ستكون بناءة جداً من جانبه.
ما علينا.. ليس هذا موضوعى الآن، فعندما تظهر نتائج هذه المباحثات سيكون التعليق عليها متاحاً.
وفى كل الأحوال، لا يبدو فى الأفق المرئى حل سحري، سهل وسريع بالصورة التى رسمها الرئيس الأمريكى ترامب لناخبيه وللعالم قبل وبعد وصوله للبيت الأبيض، يضع نهاية سعيدة لهذه الحرب التى استمرت ثلاث سنوات، ترضى طرفيها.. روسيا من جانب، وأوكرانيا ووراءها أوروبا من جانب آخر.
موضوعى الآن لقطة لم أستطع تجاوزها، تتعلق برد الفعل الأوروبى على اللقاء الصاخب والأشهر على مستوى العالم، الذى جرى فى البيت الأبيض يوم الجمعة الثامن والعشرين من فبراير الماضي، بين الرئيس الأمريكى ترامب ونائبه فانس، والرئيس الأوكراني، والذى تابع العالم كله تفاصيله على الهواء مباشرة فى بث تليفزيونى حى من البيت الأبيض.
فعقب انتهاء اللقاء مباشرة، وما شهده من مشادة عنيفة من جانب الرئيس الأمريكى ومغادرة الرئيس الأوكرانى على أثرها البيت الأبيض شبه مطرود، فى مشهد مهين، هاج قادة الاتحاد الأوروبى وزعماء الدول الأوروبية مستنكرين سلوك الرئيس الأمريكي، ومشيدين بصلابة وتماسك الرئيس الأوكرانى فى الدفاع عن حقوق بلاده وسيادتها.
كانت الرسالة التى خرجت من بروكسل عاصمة الاتحاد الأوروبي، ومن عواصم الدول الأعضاء به، موجهة للرئيس الأوكرانى لحظتها، مشحونة بمشاعر الدعم النفسى والسياسي، تقول له فى عبارات قليلة، لكنها قوية ومؤثرة: »لست وحدك«.. »أوكرانيا هى أوروبا«.. »أنت على الجانب الصحيح«.
بالغ أحد ردود الفعل هذه الصادرة عن قيادة الاتحاد الأوروبى معلناً أن »العالم الحر« ـ وهو اللقب الذى يطلق على الغرب ممثلاً فى أمريكا وأوروبا ـ »بات فى حاجة إلى زعيم آخر غير ترامب«، بينما دعا مستشار ألمانيا الجديد المنتخب إلى إنشاء »قدرة دفاعية أوروبية ذاتية، تكون بديلاً عن حلف الأطلنطى بشكله الحالي«.
بينما كان الرئيس الأوكرانى قد سبقهم فور عودته إلى بلاده وسط حفاوة شعبية من أنصاره، بأنه لن يوقع اتفاقية المعادن التى كانت جاهزة للتوقيع عليها خلال لقاء الجمعة بالبيت الأبيض، ما لم تحقق لبلاده ضمانات أمنية.
لكن..
لم تكد تمر ساعات، حتى أفاق قادة الاتحاد الأوروبى وزعماء دوله الأعضاء إلى واقعهم بعد أن سكت عنهم الغضب وهدأ الانفعال الوقتي، فبدأوا يطلقون تصريحات جديدة مغايرة تحمل نبرة التهدئة.. هذه عينة منها:
> السكرتير العام لحلف الأطلنطي: أوروبا وأمريكا بحاجة إلى التعاون.
> رئيس وزراء بولندا: لا أرى أحداً غير أمريكا يستطيع مواجهة روسيا، وعلى زيلينسكى العودة للحوار مع ترامب لجعل بلاده أكثر أمناً.
> زيلينسكي: أنا جاهزة لتوقيع اتفاق صفقة المعادن.. فهو يعلم أنه إذا تخلت عنه أمريكا فلن تنفعه الآن أوروبا بقدراتها المحدودة.
وأحيطت هذه التصريحات بمؤتمرات قمة لبحث زيادة الدعم الأوروبى لأوكرانيا وتوصيات بالسعى لزيادة الإنفاق الدفاعى لدول الاتحاد، وثلاثة مليارات ومائتى مليون دولار من بريطانيا لأوكرانيا.. إلى آخره.
هذه الساعات القليلة التى غيرت التوجهات الانفعالية الأوروبية كانت كاشفة لأوروبا أمام نفسها، ومجسدة لأزمتها الحقيقية، وهى تبعيتها العسكرية والأمنية لأمريكا، وعدم قدرة اقتصادها على تحمل تكاليف حرب جزئية فى إحدى دولها.. فماذا لو رفع ترامب حمايته عنها؟!
لقد أدركت أخيراً أن ما فعله ترامب بزيلينسكى كان رسالة منه إليها وهى المقصودة بها.
أوروبا القارة العريقة، الأسبق تقدماً صناعياً على مستوى العالم قبل اكتشاف أمريكا ذاتها، والتى كنا نحسدها نحن العرب على أنها نجحت فى إنشاء سوقها المشتركة عام 7591، ثم حولتها إلى اتحاد وعملة موحدة رغم أنها كانت ساحة لحربين عالميتين، اكتفت، فى مجال أمنها بمظلة حلف الأطلنطى الذى تقوده أمريكا، ولم تنتبه إلى عجزها فى هذا المجال إلا عندما تغيرت القيادة فى البيت الأبيض بمجئ ترامب فى فترة رئاسته الأولى عام 6102، ومطالبته لدولها بزيادة إنفاقها الدفاعى لأن أمريكا لن تستمر فى تحمل تكاليف الدفاع عنها، وهددها بالانسحاب من الحلف.
وعندما اندلعت الحرب فى أوكرانيا، لم تستطع دولها السبع والعشرون ـ مجتمعة ـ أن تدعم أوكرانيا خلال سنوات الحرب الثلاث حتى الآن سوى بمائة مليار دولار، بينما قدمت أمريكا وحدها ثلاثمائة وخمسين ملياراً.
وفى مجال الدعم العسكرى الميداني، لم يكن لديها من مخزونات الذخيرة ما يكفى احتياجات أوكرانيا المتزايدة لمواجهة الزحف العسكرى الروسي، واضطرت لتشغيل مصانع الذخيرة بها بطاقتها القصوي.
ورغم أنها تضم دولتين نوويتين هما بريطانيا وفرنسا، فإنها اكتفت بالانضواء تحت المظلة النووية الأمريكية، ولم تفكر فى البناء على قوتها الخاصة بإنشاء ما تفكر فيه الآن من قدرات دفاعية ذاتية أو جيش أوروبى موحد يكون بديلاً لحلف الأطلنطى ويقلل من تبعيتها العسكرية والأمنية لأمريكا أو لأى قوة أجنبية أخري.
ولو بدأت من الآن، فإن تحقيق ذلك ـ فى تقدير الخبراء ـ سيحتاج فى الحد الأدنى إلى ما بين عشر إلى عشرين سنة، وبتكلفة باهظة، بينما دولها تصرخ من إصرار ترامب على أن تزيد إنفاقها الدفاعى إلى خمسة بالمائة من ناتجها القومى الإجمالي، وترى أنها فى حاجة إلى سنوات لتوفير هذه النسبة.
أوروبا فى أزمة حقيقية، ومرشحة لأن تكون الخاسر الأكبر فى أى تسوية للحرب الأوكرانية إذا تمت هذه التسوية باتفاق مباشر بين ترامب والرئيس الروسى بوتين بعيداً عنها وهو ما يظهر من استبعادها حتى الآن من المفاوضات بينهما.
أوروبا تدفع الآن ثمناً باهظاً لتقصيرها فى بناء مظلتها الدفاعية الخاصة بها، وترك مسئولية أمن دولها فى يد غيرها، وهو درس قاس لآخرين غيرها.