توثيق دقيق لـ 71 عاماً من عمر الوطن الكبير
إحنا التاريخ



تظل احتفالية الجمهورية 71 عاما مســـتمرة لأن كنوزها كثيـــرة ولا يمكن أن تنتهى فى يوم واحد، الجمهورية تاريخ لا يمكن اختصاره فى عدد محدود من الصفحات، ولكنه يحتاج مجلدات، ونحاول أن نعبر عنه قدر الإمكان، فليس سهلا أن تلخص 71 عاما من عمر الوطن رصدته الجريدة بمهنية وتدقيق، فى عدد واحد.
إحنا التاريخ.. عنوان العدد التذكارى الثانى اليوم فى إطار احتفال «الجمهورية» بمرور 71 عاماً على صدور عددها الأول فى 7 دسمبر 1953 «إحنا التاريخ» وهذا يعكس حقيقة مسيرة صحفية مميزة.. فلو قمنا بزيارة للتاريخ على أعدادها على مدى 71 عاما نجد أنها وعبر كتيبة مفكريها وكتَّابها وصحفييها كانت تقدم رصدا دقيقا وتوثيقا مهما فى جمهوريتنا التى كان لم يمر على ثورتها 16 شهرا تقريبا.. ومن عناوينها تلمس كيف كانت معبرة عن طموحات المواطن والقيادة ومساندة لقواتنا المسلحة ولمسيرة التنمية الوطنية التى نفذت من أول يوم ضمن استراتيجية تنمية سجلتها عبر مانشيتات الجريدة وفى نفس الوقت كان تواجه الثورة المضادة التى حاولت النيل من الثورة وها هى تسجل الانجازات القومية كما نرى فى يوم «السد العالي» معجزة التنمية فى القرن الماضى وحرب تأمين القناة «56» وقواتنا وهى تقاتل لتحرير سيناء التى احتلت بعد نكسة يونيو فكانت مع قواتنا المسلحة وكما حمل الجندى المصرى البطل حمل أبناؤها الشهداء بالقلم والكاميرا جنبا إلى جنب على أرض الفيروز.
ومع 30 يونيو كانت «الجمهورية» سباقة مع الملايين فى الشوارع وبعد نجاح الثورة وطرد الجماعة الإرهابية كانت عبر صفحاتها خلال 11 عاما الماضيين تسجل عبر سطور أقلام كتابها وصحفييها مسيرة تنموية قاموا بالإرادة والإصرار لتحقيق خطة التنمية التى يقودها الرئيس عبدالفتاح السيسى.. ووقفت الجريدة بضمير الوطن ضد الإرهاب فى سيناء وفى ربوع الوطن كاشفة مخطط الإرهاب ومؤكدة استمرار مصر بعزيمة أبنائها وسواعدهم فى البناء والتنمية فى الجمهورية الجديدة فقد كان لسان حالها يد تبنى وأخرى تواجه الإرهاب والتحديات.. وقدمت «الجمهورية» التجربة التنموية المصرية غير المسبوقة فى عهد البناء والنماء.. وتظل جريدة الجمهورية الراصد الأمين لتجربة مصر على مدى أكثر من سبعة عقود ولا يزال دورها مستمرا مع بناء وطن وسط التحديات فى منطقة مرتبكة ومشتعلة أقرب الشبه بأيام إصدار أعدادها الأولى.
نحن فى الشرق عاطفيون
عاطفيون فى كل شىء.. فى تفكيرنا، واتجاهاتنا، وبيعنا، وشرائنا.. وحتى فى سياساتنا.
والعاطفية عمومًا تفسد السياسة، وتفسد الأجواء التى يستطيع فيها المخلصون أن يعملوا.
فنحن لا نكاد نختلف فى شيء حتى تثور أعصابنا، ويأخذ علينا الغضب حياتنا، وتصرفاتنا، وأقوالنا، وأفعالنا، فنعود لا نرى فى الأخ إلا العداء، ولا نرى فى الصديق إلا الخيانة.
هذا هو تاريخ بلادنا كله، ينطق بأننا لم نكد نختلف فى رأي، أو نتباين فى هدف، حتى ينقلب اختلاف الرأي، أو تباين الهدف، قطيعة وعداوة.. وفى أغلب الأحيان احقاداً وخصومات.
فهذه البلاد، بلادنا العربية الحبيبة، تقع بينها الخلافات حينا بعد حين، وهى دائماً خلافات تنتج من أن بلداً من بلادنا ترى أحياناً أن مصلحتها الخاصة يمكن أن تكون جزءاً منفصلاً عن المصلحة المشتركة لسائر الشقيقات أو لبعض هذه الشقيقات، فتتصرف فى عاطفية فردية، خطرها محقق على الفكرة العربية، والوحدة العربية.
ولقد ترامت إلينا أنباء خلاف مستحكم بين سوريا والعراق، قد لا يكون من المستحب أن نناقش تفاصيلها، ولكن حسبنا أن نذكِّر الشقيقتين بأن هذه الخلافات لن يستفيد منها إلا الإنجليز، وإلا الاستعمار فى شتى صوره، وأولئك الانتهازيون، الذين أن كانت بلادنا قد تخلصت من بعضهم، فإن لهم بقية وأذناباً.
وحسبنا أيضاً أن نتوجه إلى أخينا الزعيم أديب الشيشكلي، رئيس الجمهورية السورية، وقائد نهضتها، الذى استطاع أن يحقق لها هذا القدر الكبير من آمالها، ومن آمال كل عربى.
وأن نتوجه إلى أخينا السيد فاضل الجمال رئيس حكومة العراق، هذا البلد الشقيق الذى لا يقل ما نروه من عزة وحرية ومنعة، عما نرجوه للشقيقة سوريا ولسائر الشقيقات العربيات.
إن ثورة مصر ــ وقد حملت على عاتقها رسالة الإخاء العربى لتهيب بالإخوة أن يتصافوا، فتخنق هذه الخلافات، وتزول من صفحة العرب آثارهاو، ولنضع أمام أعيننا شيئاً واحداً هو مصلحة بلادنا وشعوبنا من ملايين العرب.
ولن تتحقق هذه المصلحة إلا فى ظلال أخوة صافية واتحاد كريم.
انور السادات
طه حسين كاتباً ورئيساً لتحرير «الجمهورية»
مقالات «العميد» استمرت من العدد الخامس حتى الستينات
بقلم :
صلاح عطية
تولى عميد الأدب العربى د.طه حسين رئاسة تحرير جريدة الجمهورية لنحو ثلاث سنوات وأربعة شهور، فقد ظهر اسمه لأول مرة على رأس أسماء رؤساء التحرير فى الجمهورية فى أول أبريل 1960 واستمر كذلك حتى 29 يوليو 1964.. ولكن اسم الدكتور طه حسين كان على صفحات «الجمهورية» فى مقالاته التى استمرت حتى الستينيات وكانت قد بدأت منذ أول أعدادها فى يوم الاثنين 7 ديسمبر 1954، حين ظهر فى حوار أجراه معه الدكتور لويس عوض تحت عنوان «محنة الأدب تشتد.. أصبحت من أنصار القديم».. حيث أعلن فى هذا الحوار أن الأدب فى محنة.. وأن محنته تشتد فى كل يوم، وكان من مظاهرها فى ذلك الوقت كما رآها الدكتور طه حسين عدم وجود أى صحيفة أدبية بعد اختفاء المجلات الشهرية والأسبوعية التى كانت تعنى تضيئ بالأدب.. كما أن الأدب الذى كان يصدر فى تلك الأيام رآيه الدكتور طه حسين أدباً يسيرا لا عناية فيه بجمال الصورة ورونقها.
قال الدكتور طه حسين لقد وصفت دائماً بأنى ثائر ومجدد فى الأدب، ولكن كل شىء ممكن، فقد أصبحت اليوم محافظاً وأصبحت من أنصار القديم لأنى حريص أشد الحرص على أن احتفظ للأديب بروعته وارتفاعه وعلى أن أرفعه عن الابتذال فى لفظه ومعناه وأسلوبه جميعاً.
وعندما سأله د.لويس عوض عن نصيحته لكى يستقيم الأدب ويخرج من محنته؟ أشار الدكتور طه حسين فى إجابته إلى أن هناك أمر أكبر وأوسع من أن انفرد بالرأى فيه، وهو بعد ذلك شديد التعقيد، فلابد من التماس هذه الأسباب التى فرضت هذه المحنة، وإذا عرفت، أمكن أن نلتمس لها الدواء، فدع الأدباء يقولون فى هذا الموضوع آراءهم، ثم عد إلى بعد أن تجتمع لك طائفة حسنة من الآراء.. فقد تجد عندى من المقترحات ما يصح عرضه على الأدباء ورجال الثقافة ليعيدوا النظر فيه.. والذى أعلمه أنكم تنشئون صفحة أدبية فأى موضوع أجدر أن يعنى به فى هذه الصفحة من هذا الموضوع؟
هكذا فتح الدكتور طه حسين لأول حوار ونقاش مع الأدباء والمثقفين من خلال صفحة الأدب التى كان يشرف عليها الدكتور لويس عوض.. ولينطلق بعد ذلك حوارات ومناقشات عديدة على صفحات الجمهورية كان محورها عميد الأدب العربى الذى دخل فى معارك أدبية عديدة استطعنا جمع الكثير منها من خلال سلسلة كتاب «تراث الجمهورية» تحت عنوان «طه حسين ومعاركه الأدبية.
وقد ظهر أول مقال من المقالات الأسبوعية على صفحات الجمهورية للدكتور لويس عوض فى العدد الخامس من الجمهورية بتاريخ الجمعة 11 ديسمبر 1953.. وكان تحت عنوان «سراب».. والسراب الذى كان يعنيه عميد الأدب العربى هو الأمم المتحدة.. ونقرأ كلماته منذ سبعين عاماً وكأنها كتبت اليوم.
من بعيد

بقلم :
الدكتور طه حسين
ثلاث أسابيع كاملة لم أكتب فيها لـ «الجمهورية» شيئا، لا لأنى آثرت الصمت أو رغبت فيه، بل لأنى أكرهت عليه إكراها.
وكان مذهبى فى السفر هو الذى أكرهنى على هذا الصمت وما رأيك فيمن يستطيع أن يقطع الأمد بين القاهرة وفلورنسا فى أقل من يوم إن إتخذ الجو لرحلته طريقا، وفى أقل من ثلاثة أيام، أن إصطنع السفينة والقطار، ولكنه يعدل عن الطائرة وعن القطار إلى سيارة صغيرة، ثم هو لا يأخذ من هذه السيارة كل ما تسطيع أن تعطيه من السرعة، وإنما يفرض عليها الآناة والريث فرضا، ويكلفها أن تزحف زحف السلحفاء ويقطع هذا الأمد القصير فى عشرة أيام كاملة لا لشيء إلا لأنه يكره السرعة ويؤثر الأناة يجنى من هذه الأناة خيرا كثيرا.
ولست أدرى أمغال أن فى المحافظة حين أصطنع الأناة فى عصر السرعة، أم مغال أن فى التجديد حين أرى الناس من حولى يعجلون فى اليسير والخطير من أمورهم فأتريث وأتمهل، لا أؤثر بذلك راحة ولا أتوخى فيه سهولة أو يسرا، وإنما أوثر شيئا آخر قلما قرأت أيام الشباب ولما أقرأ فى عصر الشيخوخة.
فقد أنفقت دهرا من الشباب دراسا لتاريخ روما، وكيف بسطت سطاتها قليلا قليلا على إيطاليا، وكيف قهرت مدنا كانت أعظم منها قوة وأشد بأسا، وكيف تعرضت للغزو يأتيها من خارج إيطاليا فتصلى ناره ثابتة له صابرة عليه محتملة أخطاره مقاومة له ما وسعتها المقاومة، منتصرة عليه آخر الأمر، مخضعة إيطاليا كلها لسلطانها ثم متجاوزة إلى ما وراءها فى البر والبحر حتى تبسط هذا السلطان على جزء عظيم من العالم القديم.
درست هذا كله أيام الشباب ولكنى لم أزد على قراءته فى الكتب وسمعته من الأساتذة، وقرأت حوله أدبا كثيرا، منه القديم ومنه الحديث، ولكنى لم أحقق من هذا الذى قرأته وسمعته شيئا لأنى إكتفيت بالقراءة والإستمتاع ولم أزد عليهما.
وقد أنفقت دهرا أقرأ فى كتب الإيطاليين ما يصور الحياة الإيطالية الحديثة وما حفلت به من الأحداث، وما فاضت به من الأخطار وما إختلف عليها من الخطوب، وما شاع فيها من الجد والهزل ومن العنف وللين والعسر واليسر، ومن ألوان الصراع السياسى والاجتماعى إلى آخر ما تصوره كتب الأدب حين تعرض حياة شعب من الشعوب.
ولكنى قرأت هذا كله كما قرأت تاريخ روما القديم ثم لم أحقق منه شيئا لأنى إكتفيت بالقراءة لم أزد عليها فما الذى يمنعنى إذا أتيحت لى الفرصة أن أستحضر مما درست من التاريخ وأن أحقق ما قرأت من الأدب وأن أحيا مع الروماينين القدماء ومع الإيطاليين المعاصرين أو مع الإيطاليين من أهل القرون الوسطى من نهار فى هذه المدينة أو تلك من هذه المدن الإيطالية التى أتاح لها أهلها أن تكون حقيقة تتحدث إلى الذين يزورونها بتاريخها البعيد وبتاريخها القريب وبحياتها التى تحياها الآن.
ما أسعد الأوطان التى يتيح لها أبناؤها أن تكون حية دائما ناطقة دائما معربة دائما عن تاريخها وعن آمالها وعن آلامها وعن حاضرها كله وعن مستقبلها كما تحب أن يكون.
ما أسعد هذه الأوطان بأبنائها الذين يتيحون لها الحياة والنطق وما أسعد هؤلاء الأبناء بأوطانهم التى تتيح لهم المجد والفكر والأمل والموعظة، وما أقدر مصر على أن تسعد بأبنائها وما أقدر المصريين على أن يسعدوا بوطنهم لو فكروا فأحسنو التفكير وقدروا فأحسنوا التقدير وأرادوا فصدقوا الإرادة وعزموا فأمضوا العزيمة.
لقد وصلت إلى مدينة برنديزى ذات صباح ولم تدك السيارة تنطلق بنا حتى بهرنا بكل شيء، بهرتنا الطبيعة التى تفرض نفسها على الناس ولكن الناس يحسنون إخضاعها لسلطانهم تسخيرها لمنافعهم فيضيفون إلى جمالها الأصيل جمالا مكتسبا، يضاعف الرغبة فى الإستمتاع بها والإطمئنان إليها، هذه الطرق الممهدة الميسرة التى تظهر لك من جمال الطبيعة ومن جمال الإنسانى ما كان جديرا أن يخفى عليك وأن يفلت منك، لو لم تمهد هذه الطرق تمهيداً يظهرك على أسراره ودقائقه فيسحرك ويبهرك ويثير فى نفسك كثيرا من الخواطر التى يشيع فيها الحزن والأمل جميعا.. الحزن علي ما أضاعت مصر من وقت، والأمل فى أنها ستدرك ما فاتها، وفى أن أبناءها سيحيونها بعد موت وسيجعلونها لأنفسهم وللطارئين عليهم كأحسن ما يجعل الوطن الجميل.
والأمر فى مصر أيسر جدا منه فى بلد كإيطاليا، فمصر لا تعترض طرقها الجبال الشاهقة ولا يكثر فيها الالتواء والانحراف والموج والأمت، وإنما هى سهلة ميسرة لا يحتاج تمهيدا الطرق فيها إلا إلى العزيمة الصادقة والعلم المتقن والنصح للوطن والمواطنين.
لقد أنفقت الأيام متنقلا من مدينة إلى مدينة..
هذه مدينة يونانية قديمة شاركت فى المجد اليونانى القديم ثم خضعت لسلطان روما فشاركت فى مجدها، ترى فيها الآثار اليونانية قائمة قد عبث بها الدهر عبثا قليلا وكثيراً، ولكن الإنسان صانها مع ذلك من الفناء، وحفظها من الدثور وأتاح لها من الحياة ما يمكنها من أن تلقى عليك دروسا مختلفة فى التاريخ وفى السياسة وفى العلم والفن.
وهذه مدينة إيطالية كان يسكنها هذا الشعب أو ذاك وكان يقيم فيها حضارته الخاصة ثم خضعت لسلطان روما فشاركت فى الحضارة الرومانية وأقامت فيها آثارها الأولى إلى جانب الآثار الرومانية إلى جانب الآثار المسيحية التى تركتها الوسطى وإلى جانب المعانى التى تصور الحياة الحديثة بكل ما فيها من قوة وروعة وزينة وجمال.
وأنت لا تترك هذه المدينة أو تلك حتى تستحضر التاريخ الطويل وما يصور من جهاد الأجيال وما بذلت من نشاط وما كان بينها من صراع وما تركت من موعظة أو عبرة لمن أراد أن يتعظ أو يصبر سواء، ولكنك مضطر إلى أن تصعد حينا فى الجبال الشاهقة وتهبط حينا آخر إلى السهول المنبسطة، ترفعك النجاد ونحيطك الوهاد لا تجد فى ذلك مشقة ولا عناء.
قد عرف أهل هذه البلاد كيف ييسرون طرقها ومسالكها لأنفسهم أولا وللطارئين عليهم بعد ذلك، وكيف يجنون من تيسير هذه الطرق والمسالك لأنفسهم ألوان المنافع وفنون المتاع، وكيف يتيحون للطارئين عليهم من هذه الألوان والضروب ما يغريهم بزيارتها ويجب إليهم الإلمام بها ويرغبهم فى أن يقيموا فيها فيطيلوا المقام.
الحمد لله…
التقت «الجمهورية» وقراءها لقاء كريماً نادراً، فقد تلقفها القراء فى كل مكان على شوق وفى لهفة، بدا أثرها فى نفاذها أثر صدورها واضطرارها إلى الاستعانة بمطابع زميلتنا «الأهرام» فضلاً عن مطابعها حتى لقد اخرجت عدداً لم تسبقه إليها أيه صحيفة فى الشرق.
ولقد رضى القراء والحمد لله وتجلى رضاؤهم هذا فى شدة اقبالهم على الصحيفة، وفى تهانيهم التى حيوا بها العاملين فيها بشتى الصور وأنا لنشكر لهم هذا ونذكره، ونعاهدهم على أن نبذل جهد الطاقة فى حمل الامانة وتأديه الرسالة.
ولقد انتظر القراء من «الجمهورية» أن تكون الصلة الحقيقية بينهم وبين القادة وقد كانت، فقدمت آراء هؤلاء الناس وأفكارهم باقلامهم فتلقاها القراء وانفعلوا بها وتأثروا بها وعاشوا مع أصحابها.
وانتظر القراء منها أن تكون الصحافة المتوقعة عن هدف الكسب المادى المستهدمة المصلحة العامة والحقيقة المجردة وكانت عند حسن ظنهم، وانتظروا أن تكون مصدر الخبر الصحيح الذى لا يزيفه غرض ولا يجنى عليه اتجاه لانها فوق الأغراض والاتجاهات وقد كانت.
وانتظرت الجمهورية أن يتلقى الناس ما بذل فيها من مجهود بما هو أهل له من التقدير وقد كان والحمد لله.
وأنه لعهد وثيق بين الجمهورية بكل من يعمل فيها وبين القراء على أن تضاعف الجهد وأن تتحرى الصدق وأن تبذل كل ما تملك من امكانياتها لتؤدى رسالتها كاملة.
وأن اقبال الجمهور على صحيفتنا هذا الاقبال دليل على أن ثورتنا المباركة كانت صدى حقيقياً لكل ما يعتمل فى صدور الشعب وأن التجاوب بينها وبين الجماهير قد قام عليه الدليل الواضع الذى لالبس فيه ولا غموض وأن هذه الشهود التى سلختها الثورة من عمرها السعيد كانت كافية لاثارة الوعى القومى وجمعه وتوجيهه وغرس الايمان بأهداف الثورة فى القلوب.
وهذا يشير بأن الحرية المنشودة لوادى النيل قد اصبحت قاب قوسين أو أدنى اذا قد توفرت للحصول عليها كل أدواتها من انتشار الوعى والايمان والتصميم على الجهاد والاعداد الشعبى للمعركة الفاصلة الذى سيقف فيها الشعب كله صفاً واحداً فى مواجهة الاستعمار الذى لن يجب بدأ من التقهقر والتخاذل والتسليم.
والله سبحانه وتعالى يبارك دائما الصادقين العاملين من عباده ويوفقهم وأنا لنلمس عونه تعالى فى تذليل كل ما يعترض من اعمالنا من عقبات يعرفها كل من عانى الصحافة واتصل باعمالها وقاسى من متاعبها.
وان اقبال الجمهور وحبه لصحيفتنا إلى الحد الذى لمسناه لهو اوضح دليل واصدق برهان على رضائه سبحانه وحسن رعايته..
اللهم حمداً وشكراً
افتتاحية الجمهورية «العدد الثانى» ٨ ديسمبر ١٩٥٣
روح.. وثورة.. وقارة
بقلم :
حسين فهمى
عاد صلاح سالم أمس من قلب القارة الافريقية، ولم يكون صلاح في ذهابه إلي هناك وعودته فرداً ينتقل من مكان إلي ماكان، أو وزيراً يزور الأقاليم ويلتقى بالناس، ولكنه كان روحاً ثورياً يمثل فكرة وطنية ثاثرة، تطوف بالمجموع في الشمال والجنوب والشرق والغرب لتربط بين شعوب القارة الفنية السوداء، وتخلق كتلة شعبية جارفة تدفع الاستعمار إلي الهاوية وتزيح كابوسه الثقيل عن صدر القارة.
ولقد كانت زياراته هذه للجنوب نتيجة طبيعية للتحرير، وتحطيم القيود الاستعمارية، فلقد حرص الاستعمار منذ وطئت أقدامه المشئومة أرض القارة علي أن يفصل بين شعوبها ويبعث بينهم الفرقة والخلاف، ولهذا استطاع الاستعمار ان ينجح في عرقلة تقدم الشعوب الافريقية، وفي دوام استعمارها واستغلالها.
ولم تكد مصر تحطم أغلالها، وتتخلص من القيود الرجعية والاستغلالية التى كانت تشدها بعنف إلي عجلة الاستعمار، ولم تكد تؤمن بالكفاح المسلح طريقاً للتحرير، وتمضى قدماً في الاستعداد له.. حتى اندفعت في حركة تلقائية طبيعية إلي الجنوب.. إلي قلب القارة الافريقية.. إلي الوحدة في الجنس والاحساس ومصائب الاستعمار.. وكانت رحلات صلاح سالم ترجمانا لاحاسيس المصريين والافريقيين جميعاً وآمالهم وآلامهم.
ولئن اتسم أول هذا القرن بالصراع العنيف بين المستعمرين علي استغلال افريقيا، وبالحروب التي اشتعل أوارها بينهم للسيطرة عليها، فان أواخر هذا القرن ستشهد حروباً من نوع آخر، وستلعب افريقيا الدور الأول فيها، وستكون أيضاً هى سبب هذه الحروب، ولكنها ستكون حروباً من نوع آخر، لن تكون بين مستعمر أبيض ومستمر آخر يتتنازعان علي استعمار افريقيا، ولكنها ستكون الحرب المقدسة،، الحرب بين المستعمر الغاصب والمواطن صاحب الحق الأصيل.. ستكون حرباً بين افريقيا نفسها وبين غاصبيها، وسيجد المليون الأبيض أو المليونان اللذان يتحكمان في مائتى مليون من الافريقيين، سيجدون أنفسهم وقد جرفتهم الحرب المقدسة إلي الجحيم.
إن روح الثورات الوطنية التي حملها صلاح سالم إلي أحراش الجنوب وجدت هناك، وستجد، التربة الخصبة التى تبعثها ثمراً جنياً في كل مكان يحمل الثورة الوطنية، والعهد علي الكفاح إلي قلوب الافريقيين جميعاً حتى يقوموا في كل طرف من أطراف القارة قومة رجل واحد، لا يملك الاستعمار لها دفعاً، ولا يستطيع لها رداً، ولا يجد إلي كبتها وسيلة، واللهم إلا أن أن يرحل إلي غير ما رجعة.
فإن ثورة مصر، كما رسمها جمال عبدالناصر، وكما صورها صلاح سالم، وكما هى في حقيقتها، عربية من ناحية ربط الكفاح العربى ووحدة نضاله ضد الاستعمار حتى ينتصر، وهى افريقية من ناحية ايقاظ العملاق الوطنى في القارة ولم شتات قواه وبث روح الكفاح فيه ودفعه حتي ينتصر، وحين تتحطم قيود الاستعمار وينزاح عن كاهل تلك القارة، ستعرف كيف تحمل نصيبها من الحضارة العالمية، وكيف تؤدى رسالتها الكاملة في خدمة سلام العالم وأمنه ورخائه وسعادته.