التدخين إلى جانب أنه عادة سيئة.. ومدمر للصحة.. فإنه أيضاً مدمر للدخل..
الأسبوع الماضى تعطلت سيارتى واضطررت للذهاب إلى ورشة ميكانيكى لإصلاح الخلل.. وإلى هنا والأمر عادي.. ولكن الإصلاح الذى كنت أظنه سيأخذ ساعتين أو ثلاثة على الأكثر.. استمر طوال اليوم وحتى السابعة مساء.. وخلال تلك الفترة كنت اتابع العامل الذى يعمل فى السيارة.. هو مهنى وحرفي.. ولا شك فى ذلك.. وقد تابعت مراحل الفك والتركيب.. خاصة أن القلق والشك قد ساورنى وأنا أرى كم المسامير التى قام بفكها لإخراج الفتيس.. عملية جراحية تقريباً كل أجزاء السيارة الأمامية تم فكها.. ورأيت الكبالن تسقط على الارض.. وكذلك القنطرة والتى تحمل الموتور.. وهى ثقيلة جداً.. وظللت طوال اليوم اتابعه إلى أن تمكن بحمد الله من فك الفتيس.. والوصول إلى سبب تسريب الزيت.. واستخرج الجزء المعطوب لاستبداله.. وهو ما تم والحمد لله.
وخلال فترة العمل كنت أتابع العامل وصاحب الورشة وكانا يشعلان سيجارة كل 5 أو 10 دقائق على الأكثر.. وكأنهما لن يستطيعا العمل دون دخان السيجارة.
وتابعتهم وهم يلتهمون السجائر واحدة تلو الأخري.. ونفذت العلبة الأولى فى حوالى الساعة الواحدة والنصف.. وبدأ فى تدخين العلبة الثانية.. وكل فترة يسأل زملاءه عن الفطار وماذا يقترحون لتناول الإفطار.. دون أن يتقدم أحد لإحضار الإفطار.. وكأنهم يستعيضون عنه بالتدخين.. حتى وهو ينظف الفتيس بالنزين يشعل سيجارة.. وأنا أبدى خوفى من اشتعال النيران بسبب التدخين وهو يستخدم البنزين.. ولكنه كان يطمئنى بأن هذا البنزين المتواجد فى الحوض البلاستيك الملقى على الارض لن يشتعل بعد تشبعه بالزيت الناتج عن تنظيف الفتيس.. ويزداد الامر توترا بإشعال سيجارة جديدة.. وكأننى اكلم نفسي.. ومر الوقت حتى وصلنا إلى الساعة السابعة مساء.. وانتهى من تجميع السيارة بعد إصلاح عطل الفتيس.. والامر كما هو استمرار التدخين دون تناول وجبة الإفطار.. وأعتقد أنه اقترب من الانتهاء من تدخين العلبة الثانية.. وكأنه ينتحر ببطء.
وجاء وقت تجربة السيارة ووجدت الفرصة للتحاور مع العامل الماهر لمعرفة أسباب هذه الشراهة فى التدخين.. والذى انكرها وقال إنه لا يدخن كثيراً.. وأنه لا يكمل ثلاث علب سجاير يوميا.. وعندما سألته إن كان متزوجاً.. أكد انه متزوج ولديه ٤ أطفال.. وهو رقم يشير إلى اننى لا ينبغى أن أحارب التدخين فقط.. ولكن أن أحارب هذه الشراهة الإنجابية أيضاً.. خاصة انه يبدو عليه انه فى نهاية العشرينيات من عمره.. وعندما سألته عن أحواله المعيشية.. تنهد وقال: الحياة صعبة جداً.. الغلاء صعب علينا الحياة.. قلت له هل فكرت ان توفر قيمة السجاير التى تدخنها فى الهواء لتوفير ظروف معيشية أفضل لأولادك.. قال: أنا لا اشعر بما انفقه على التدخين.. ولكنى بحسبة بسيطة معه اظهرت له أن يصرف ما لا يقل عن مائتى جنيه يومياً على التدخين.. بمعدل ٦ آلاف جنيه شهرياً.. وانه حتى وإن كان قادراً على الإنفاق على التدخين.. فما هو ذنب أبنائه فى أن ينشأوا فى بيت تملأه رائحة التدخين.. وما هو ذنب ابنائه فى أن يتحملوا إصابته بأى أمراض يمكن أن تتسبب فى أن يصبح غير قادر على العمل.. خاصة ان مهنته تحتاج إلى المجهود البدنى والذهني.. وقلت له إننى أفكر جيداً فى أن ادفع لك اكرامية مكافأة لك على اصلاح العطل بمهارة فائقة.. ولكنى افكر هل ادفع لك إكرامية لأساعدك على المزيد من التدخين.. والمزيد من تدمير صحتك.. لقد وضعتنى فى موقف لا أحسد عليه.. هل أفعلها وادفع الإكرامية.. أم أتراجع عن دفعها من باب الخوف عليك.. وحتى لا أكون سبباً فى استمرارك فى التدخين بهذه الشراسة.
لقد أردت أن انصحه.. وحاولت أن أبصره أنه بالتدخين فى المنزل فإنه إلى جانب الضرر الذى يعرض أطفاله له.. فإنه يكون قدوة سيئة لأبنائه.. وسيكون هو السبب الرئيسى فى اتباعهم نفس السلوك.. وتدمير صحتهم بالتدخين.
إن هذا النموذج يمكن أن نلتمس له العذر.. لأنه لم ينل قسطاً كافياً من التعليم.. ولكن ما هو عذر الأب والأم الحاصلين على قسط كاف من التعليم ويشغلون وظائف مرموقة.. ويجلسان على الكافيه يوميا لتدخين الشيشة وبجوارهما أبناؤهما.. فى مشهد اعتقد أننا نراه جميعا.. فمتى يصبح لدينا وعي.. ونتوقف عن السلوكيات الخاطئة التى تتسبب فى تدمير المجتمع.. وفى مقدمتها التدخين.. وتحيا مصر.