فى مثل هذا الوقت من كل عام يحتفل المصريون بذكرى انتصار أكتوبر 1973 تلك الحرب العظيم التى استعدنا فيها الأرض والكرامة بعد هزيمة العدو الإسرائيلى وجيشه الذى لا يقهر.. لنثبت للعالم أن الجنود المصريين هم خير أجناد الأرض.. عقيدتهم «النصر أو الشهادة».. يضحون بالغالى والنفيس من أجل وطنهم.. فهم رجال وقت الشدة.. يعيشون درعا وسيفا للوطن.. ويموتون شهداء من أجل الشرف والكرامة. والحديث عن حرب أكتوبر المجيدة لن ينتهى فروحه جاهزة دائماً فرغم مرور 51 عاما على هذا النصر العظيم إلا أن التحدث عن بطولات الرجال فى ميدان المعركة ما زال مستمرا، فقد شهدت حرب الاستنزاف التى بدأت عقب نكسة 67 واستمرت حتى 1973 بطولات عديدة لأبناء ورجال القوات المسلحة الشرفاء الذين خاضوا معارك عديدة كسروا خلالها غرور الجيش الإسرائيلى وكبدوه خسائر فادحة فى أفراده ومعداته لتعود الثقة للمقاتل المصرى فى ذاته وإمكانياته وقد وصفها الخبراء الاستراتيجيون بأنها كانت بروفة حقيقية لنصر أكتوبر 73 والتى تم من خلالها دراسة أسلوب العدو وأماكن الضعف والقوى وإمكانيات الأسلحة وعددها وغيرها من الدروس الكبيرة. . فعلى الرغم من مرارة الهزيمة بعد نكسة يونيو 1967 والحالة النفسية التى عاشها المصريون، وخيبة الأمل التى أحاطت الأمة العربية، إلا أنه بالعزيمة والإيمان والأمل رفضنا الاستسلام، وبعقيدة راسخة كان شعار «ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة» هل الذى يعمل من أجله جيش مصر، صممنا على تحرير أرض سيناء الغالية وعبرنا النفق المظلم ونجحنا فى العودة سريعًا، لتبدأ مرحلة التصحيح والبناء والتنظيم، لاسترداد الأرض والكرامة حيث كان الاعتراف بالهزيمة وأسبابها، والإرادة الشعبية التى وقفت خلف القيادة السياسية والقوات المسلحة، عظيم الأثر فى ذلك بالإضافة إلى حرب الاستنزاف التى استمرت أكثر من ألف يوم، تعلمنا منها دروسًا عديدة كانت سببًا فى تحقيق انتصار أكتوبر العظيم واسترداد الأرض والكرامة بقرار قائد الحرب والسلام الرئيس أنور السادات وبعد ٥١ عاماً .. تظل رسالة الجيش المصرى العظيم .. ان الأرض أغلى من الحياة يدافعون عنها بكل غال ونفيس ومهما زادت التحديات وتغير العدو وقبول التهديد، يظل جيش مصر بقوته وارادته هو الحامي لهذا الوطن.
«الإسـتنزاف».. بدايــة النصــر العظيم
الصمود.. المواجهة.. الردع
حرب الـ «١٠٠٠» يوم
«حرب الاستنزاف»، هو مصطلح أطلقه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، على الحرب التى اندلعت بين مصر وإسرائيل على ضفتى قناة السويس، بعد احتلال سيناء، وبدأت أحداثها منذ تقدم المدرعات الإسرائيلية إلى مدينة بور فؤاد، لاحتلالها فى يوليو 1967، وتصدت لها قوات الصاعقة فى معركة «رأس العش»، واستمرت الحرب لنحو 3 سنوات، واصلت قواتنا خلالها استنزاف قوات الاحتلال، وأطلق عليها العدو «حرب الألف يوم»، من ثقل وأعباء تلك الأيام عليهم، وفى 7 أغسطس 1970 انتهت المواجهات بقرار من الرئيس عبد الناصر وقبول مبادرة «روجرز» لوقف إطلاق النار.
الصمود والمواجهة
بدأت مصر صراعها المسلح ضد إسرائيل بمرحلة أطلق عليها مرحلة الصمود، وكان الهدف منها سرعة إعادة البناء، ووضع الهيكل الدفاعي، عن الضفة الغربية لقناة السويس، واستغرقت هذه المرحلة المدة من يونيو 1967 إلى أغسطس 1968، واشتملت على بعض العمليات المهمة، التى كان لها تأثير كبير على المستوى المحلى والعربى والعالمى وهي: معركة رأس العش، والتى وقعت أحداثها فى 1 يوليو 1967، وتعتبر الشرارة الأولى للحرب، عندما حاولت المدرعات الإسرائيلية احتلال مدينة بور فؤاد، فصدتها قوات الصاعقة المصرية، وفى يومى 14 و15 يوليو 1967، نفذت القوات الجوية طلعات هجومية جريئة ضد القوات الإسرائيلية فى سيناء المحتلة، أحدثت خسائر فادحة، بالإضافة للاشتباك الكبير للمدفعية، والتى ركزت فيه كل إمكانياتها فى قطاع شرق الإسماعيلية 20 سبتمبر 1967، وتمكنت خلاله من تدمير وإصابة عدد كبير من الدبابات الإسرائيلية، وقاذفات مدفعية صاروخية، و قتل 25 إسرائيليًا و 300 جريح منهم ضابطان برتبة كبيرة، فضلًا عن إغراق المدمرة البحرية الإسرائيلية إيلات، فى 21 أكتوبر 1967، فى منطقة شمال شرق بورسعيد، حيث تم تلغيم الميناء وقتل عدد من العسكريين وإغراق بارجة إسرائيلية، بواسطة رجال الضفادع البشرية المصريين، كما استمرت معارك المدفعية والتراشق بالنيران طوال مرحلة الصمود، إضافة إلى نشاط أفراد القناصة المهرة، الذين قنصوا أفراد الجيش الإسرائيلى وقادته، سواء فى نقاط المراقبة، أو أثناء تحركهم على الضفة الشرقية للقناة.
أما مرحلة الدفاع النشط، أو المواجهة فكان الغرض منها تنشيط الجبهة والاشتباك بالنيران مع القوات الإسرائيلية، لتقييد حركة قواتها فى الخطوط الأمامية على الضفة الشرقية للقناة، وتكبيدها قدرًا من الخسائر فى الأفراد والمعدات، واستمرت من سبتمبر 1968، إلى فبراير 1969 وأرادت مصر خلالها أن تبـدأها بقوة، لتعلن عن نفسها إقليميًا وعالميًا، وتصيب القوات الإسرائيلية بأكبر قدر من الخسائر، وقد شملت أعمال قصف مدفعية مركزة، من مختلف الأعيرة، وشعر العدو لأول مرة أن السيطرة النيرانية قد آلت للقوات المسلحة المصرية، حيث تكبدت إسرائيل خسائر جسيمة.
التحدى والردع
تطور القتال إلى مرحلة جديدة أطلق عليها الاستنزاف أو مرحلة التحدى والردع، وذلك من خلال عبور بعض القوات والإغارة على القوات الإسرائيلية، وشهد مارس 1969، أهم مراحل التصعيد العسكرى ما بين الجولتين الثالثة والرابعة فى الصراع العربى الإسرائيلي، وقد أديرت هذه المرحلة سياسيًا وعسكريًا بتنسيق متكامل لتحقق الهدف منها ولتتوازن فى التصعيد والتهدئة، وتحددت مهامها فى تقييد حرية تحركات العدو على الضفة الشرقية للقناة، وإرهاقه وإحداث أكبر خسائر به، وكانت هـذه المرحلة التى امتدت من 8 مارس 1969 إلى 8 أغسطس 1970، طويلة وشاقة، وهى لا تقـل عسكريًا عن أى جولة من جولات الصراع العربى الإسرائيلي، بل تعد أطول جولة فى تاريخ هذا الصراع.
ومع توالى الأحداث وتصاعدها، بدأت تتصاعد موجات السخط للشعب الإسرائيلى خصوصًا مع الإعلان عن خسائرها التى تتزايد يومًا بعد يوم وفى داخل القيادة الإسرائيلية نفسها، ولم يأت النقد العنيف من داخل إسرائيل وحدها، بل من الولايات المتحدة الأمريكية أيضًا، التى صدمت من زيادة الوجود السوفيتى فى مسرح الشرق الأوسط، وشعرت أوروبا أن تأثيرات الحرب انعكست عليها، خصوصًا بعد أن انتقلت حرب الاستنزاف إلى أبعاد جديدة، بتدمير الحفار الإسرائيلى فى ميناء أبيدجان عاصمة ساحل العاج، واحتمال امتداده إلى مناطق بترولية للتأثير على المصالح الغربية.
مبادرة روجرز
ووجدت الولايات المتحدة الأمريكية أن استمرار الحرب لا يحقق مصالحها أو مصالح إسرائيل، لذلك سعت إلى تقديم مبادرة روجرز، التى تقدم بها وزير الخارجية الأمريكي، 19 يونيو 1970 إلى كل من مصر وإسرائيل، ووجد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر أن قبولها أمر ممكن، لإعطاء فرصة للقوات المسلحة لاستعادة كفاءتها القتالية بعد حرب متصلة استمرت قرابة الألف يوم، ووجدت فيها إسرائيل فرصة للخروج من أزمتها وإيقاف نزيف الخسائر الذى تتعرض له، وقبلت الأطراف المبادرة وأُعلن وقف إطلاق النيران اعتبارًا من 8 أغسطس 1970.
وأكد الخبراء العسكريون، أن حرب الاستنزاف هى التى مهدت الطريق لنصر 6 أكتوبر، وأنها كانت المدرسة التى أعدت القوات المسلحة المصرية لحرب أكتوبر المجيدة فقد كشفت لنا كل تجمعات العدو وطريقة اقترابه فى الهجوم والشكل القتالى الذى يتواجد به كما كشفت لنا أيضا عدد طائرات العدو المستخدمة فى الجو والأخرى بالمظلات مما ساعدنا على إعداد خطة أكتوبر ونجاح القوات المسلحة الباسلة فى تدمير طائرات العدو وهى على الأرض.
رمز التضحية والفداء
عبد المنعم رياض..
أيقونة النصر العظيم
عاش بفكر ضابط وعقلية عالم.. واستشهد على جبهة النصر
الشهيد الفريق أول محمد عبد المنعم محمد رياض عبد الله، رمز التضحية والفداء، ولد فى 22 أكتوبر 1919 بمحافظة الغربية، وسط عائلة عريقة فوالده محمد رياض من رعيل العسكريين المصريين القدامى الذين اشتهروا بالانضباط والأصالة، وتميز الشهيد عبد المنعم رياض منذ صغره بالذكاء وحب الاستطلاع والاكتشاف، وحصل على الابتدائية عام 1931 من مدرسة الرمل بالإسكندرية وتوفى والده وهو فى الثانية عشرة من عمره وتولى مسئولية رعاية أسرته، وفى المرحلة الثانوية تشكلت شخصيته وحدد أهدافه، والتحق بالكلية الحربية فى 1936 حيث حقق حلمه وتفوق على ذاته حيث كان يحيا بفكر ضابط وعقلية عالم، وكان دائمًا صاحب فكر ورأى مؤثر فى الأحداث من حوله ولا يرضى بالظلم أو الإهانة واشتهر بعزة النفس والأدب والشجاعة.
تقلد الشهيد العديد من المناصب بالقوات المسلحة إلى أن وصل إلى رئيس هيئة العمليات بالقوات المسلحة ثم رئيس أركان حرب القوات المسلحة، ويعتبر واحدًا من أشهر العسكريين العرب فى النصف الثانى من القرن العشرين؛ حيث شارك فى الحرب العالمية الثانية ضد الألمان والإيطاليين بين عامى 1941 و 1942، وشارك فى حرب فلسطين عام 1948، والعدوان الثلاثى عام 1956، وحرب 1967 وحرب الاستنزاف.
أشرف على الخطة المصرية لتدمير خط بارليف، خلال حرب الاستنزاف، وفى صبيحة يوم 8 مارس قرر الفريق أن يتوجه بنفسه إلى الجبهة ليرى عن قرب نتائج المعركة وزيارة أكثر المواقع تقدماً ثم انهالت نيران القوات الإسرائيلية فجأة على المنطقة التى كان يقف فيها وسط جنوده وانفجرت إحدى دانات المدفعية بالقرب من الحفرة ليستشهد وسط جنوده متأثرا بجراحه نتيجة للشظايا القاتلة، وكان استشهاده بمثابة حافز للرجال فى التضحية والفداء حتى تحقق نصر أكتوبر.. وختم حياة مليئة بالانجازات والبطولات على الصعيد العسكرى والتى جعلت من أساتذة الأكاديمية العليا بالاتحاد السوفيتى يطلقون عليه الجنرال الذهبي. .وقام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بتكريم عبد المنعم رياض بمنحه رتبة فريق أول ومنحه وسام نجمة الشرف العسكرية أرفع وسام عسكرى فى مصر، وتحول يوم 9 مارس إلى يوم الشهيد فى مصر.
تهيئة الشعب.. الاستعداد العسكرى.. الإعداد السياسى.. الاقتصاد الوطنى
تجهيز قوى الدولة الشاملة
تعبئة الجبهة الداخلية.. رفع الوعى والروح المعنوية .. بث الوطنية.. واقتصاد الحرب.. كلمة السر
تجهيز قوى الدولة الشاملة وتعبئة الجبهة الداخلية كان أحد أهم أسباب نصر أكتوبر 1973، فبعد احداث 67 وحالة الانكسار التى خيمت على الشعب المصرى قررت الدولة تجميع قوى الدولة الشاملة وتعبئة الجبهة الداخلية والالتفاف حول هدف واحد هو تحرير الأرض واسترداد الكرامة، وكان خطاب الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، بداية تصحيح المسار حيث اعترف بالهزيمة وتحمله المسئولية معلنًا تنحيه عن الرئاسة ليخرج الملايين فى مظاهرات شعبية حاشدة يرفضون التنحى يطالبون بالحرب واسترداد أرض الفيروز، لتبدأ مرحلة إعداد الدولة وتجهيزها للحرب والتى شملت عدة محاور من بينها تهيئة الشعب، وإعداد الأجهزة والمؤسسات، بالإضافة إلى الإعداد السياسي، والاقتصاد الوطني، وإعادة بناء القوات المسلحة، وتجهيز أرض الدولة كمسرح للعمليات، وجاء من بعدها مرحلة الصمود والاستنزاف.
الشعب
وبدأ إعداد الشعب للحرب بإصدار القوانين المنظمة للعلاقة بين الشعب فى جميع فئاته والقوات المسلحة والدولة، مثل إصدار قانون التجنيد وتعديل شروطه وقانون التعبئة العامة للأفراد والمعدات والمنشآت، وألزمت القوانين الأفراد الذين خرجوا من القوات المسلحة ويخضعون لخطة التعبئة والتدريب تم استدعاؤهم للجيش قبل الحرب، كما تم تعبئة الجيش بأفراد مدنيين يمتهنون مهن معينة مثل الأطباء والممرضين ومهندسين فى بعض التخصصات، وكذلك فقد استدعت القوات المسلحة العديد من وسائل النقل المدنية للحرب، حيث تم تعبئة سيارات النقل والأتوبيسات العامة ووضعها ضمن خطة التعبئة الشعبية، وكذلك تم رفع الوعى الشعبى لدى المصريين قبل الحرب من خلال مناهج التعليم فى المدارس والجامعات، ولعب الأزهر الشريف والكنيسة الأرثوذكسية دورا وطنيا مهما فى تعبئة الشعب ورفع روحهم المعنوية، وأيضا استخدمت الدولة وسائل الإعلام والتليفزيون فى بث الروح الوطنية من خلال الأناشيد والأغانى الوطنية.
مكاسب دبلوماسية
فترة إعداد الدولة لحرب أكتوبر بدأت عقب 1967 مباشرة، من خلال سعى مصر السياسى والدبلوماسى الى المنظمات الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة، وقد حققت مكاسب دبلوماسية من هذه التحركات تمثلت فى إدانة العدوان الإسرائيلى على مصر والأراضى العربية، وإصدار القرار رقم 242 من الأمم المتحدة الذى يطالب إسرائيل بالانسحاب من الأراضى المحتلة، الا أن اسرائيل لم تنفذ القرار واستمرت فى الاحتلال، كما استمر سعى مصر لقبول مبادرات السلام التى أعلنت فى ذلك الوقت مثل مبادرتى «يارنج» و«روجرز»، بالإضافة الى مبادرات مصرية عديدة للسلام، إلا أن اسرائيل أعلنت من جانبها رفضها هذه المبادرات.
كما بدأت مصر فى تجميع القوى العربية للضغط على المجتمع الدولى وتوصلت الى شعار «ما أخذ بالقوة لا يسترد الا بالقوة» فى توصيات مؤتمر القمة العربية فى الخرطوم، الذى عقد فى 29 أغسطس 1967، بمشاركة رؤساء 11 دولة عربية، وكان للرئيس الراحل أنور السادات دور دبلوماسى كبير استطاع أن يوحد القوى العربية فى تحالف واحد قوى والتنسيق معه على تنفيذ الحرب واستعادة الأرض فى ظل تعنت إسرائيل ورفضها لكل سبل السلام، وتجلت تحركات السادات وعصمت عبدالمجيد فى الأمم المتحدة وكواليسها للتغطية على استعدادات مصر للحرب.
واستطاعت مصر أن تعيد بناء القوات المسلحة وتكوين قيادات ميدانية جديدة، كما تم استحداث الجيشين الثانى والثالث الميدانيين، وإعداد القيادات التعبوية الجديدة، وإعادة تشكيل القيادات فى السلاح الجوي، وإدخال نظم تدريب على كل ما هو أساسى للحرب، والتدريب على مسارح مشابهة لمسرح عمليات الحرب، كما احتفظت القوات المسلحة بالقوة الرئيسية من المجندين، واستعدت للحرب بكل ما هوحديث فى تكنولوجيا التسليح وقامت بتطوير أسلحة المشاة واستبدلت الدبابات القديمة وتم إحلال المدفعية القديمة بأخرى متطورة وتم الدفع بطائرات حديثة فى سلاح الدفاع الجوى وإدخال طرازات جديدة من الصواريخ قصيرة ومتوسطة الى جانب الصواريخ طويلة المدى وكذلك تطوير معدات المهندسين العسكريين وأجهزة الكشف عن الألغام وإدخال أسلحة غير تقليدية ابتكرها مهندسون مصريون مثل قاذفات اللهب المحمولة على الأكتاف ومسدسات المياه التى استخدمت فى هدم خط برليف الرملي، وتم تدريب الجنود على أسلوب اقتحام الموانع المائية والنقاط القوية المشرفة على حمايتها، وأسلوب الدفاع عن مناطق التمركز والوحدات والمعسكرات لمواجهة العناصرالمتمركزة خلف خطوط الدفاع الإسرائيلي، وكذلك إجراء المشروعات سواء على مستوى القيادة التعبوية والإستراتيجية، أو المشروعات التكتيكية للجنود على موضوعات الهجمة المنتظرة من العدو، واستمرار وتكرار هذه المشروعات ضمن ما سمى بـ «خطة الخداع الاستراتيجي» التى وضعها المشير محمد عبدالغنى الجمسى والتى أوحت للعدو وقتها بعدم جدية مصر فى اتخاذ قرار الحرب.
اقتصاد حرب
أما الاقتصاد المصرى فقد تحول قبل حرب أكتوبر الى «اقتصاد الحرب» وهذا يعنى تعبئة جميع المصانع ومنتجاتها لاستيفاء احتياجات القوات المسلحة وكان للشعب المصرى دور كبير فى تلك المرحلة الفارقة من التاريخ حيث تحمل الكثير، كما كان لتحويل الاقتصاد الى الحرب أثر مباشر على الصناعة المدنية، ولجأت الدولة ضمن خطتها فى خداع العدو الى توقيع تعاقدات دولية لتوريد السلع الاستراتيجية مثل القمح على مدد زمنية غير منتظمة حتى لا تلفت انتباه العدو الى أن الدولة تقوم بتخزينها وقد تم تحقيق الاحتياطى اللازم من هذه السلع ليكفى احتياجات الدولة لمدة 6 أشهر قبل الحرب مباشرة.
مسرح العمليات
وعن مسرح عمليات أكتوبر 73 فقد تم إعداد كل أراضى الدولة كمسرح حرب من خلال إنشاء الطرق اللازمة لتحرك القوات وقد اشتركت كل قطاعات الدولة المدنية والعسكرية فى إنشاء هذه الطرق، وكان يتم وقتها الاعلان عن إنشاء شبكة الطرق طبقا للخطة الخمسية لوزارة النقل والمواصلات فتم إنشاء شبكة طرق كبيرة ومدقات لخدمة المناطق الجبلية فى الضفة الغربية، كما تم إنشاء شبكات كبارى صنعت خصيصا لتتحمل عبور المعدات الثقيلة مثل الدبابات والمدرعات وناقلات المعدات الحربية، وكذلك كبارى حديدية مؤقتة لهذه المهمة وكذلك إنشاء التحصينات على أرض المعركة وزرع الألغام اللازمة لتأمين مسرح العمليات من العدو..كما استعدت الدولة بإنشاء مطارات عسكرية جديدة وقريبة من الضفة وتحصينها بـ «الدشم» وإنشاء شبكات المواصلات السلكية واللاسلكية وخطوط الإمداد بالوقود والمياه فى مسرح العمليات لتسهيل عملية العبور الى الضفة الشرقية، وإنشاء الملاجئ للمدنيين فى المدن والقرى لحمايتهم من تأثير نيران العدو حول الأهداف الحيوية التى قد يستهدفها فى تلك المناطق.
أجهزة الدولة
كما دعا الرئيس الراحل جمال عبد الناصر إلى إنشاء مجلس الدفاع الوطنى عام 1968 والذى تكون من رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء و5 وزارات أساسية هى «الدفاع، والداخلية، والخارجية، والإعلام، والمالية» بالإضافة الى باقى الوزارات وعدد من الجهات السيادية، وكان الهدف من إنشاء هذا المجلس هو وجود تنسيق فعلى بين مؤسسات الدولة لتذليل العقبات فى سبيل اتخاذ قرارات سريعة وحاسمة والابتعاد عن الاجراءات الحكومية الروتينية المعروفة، وتسهيل كل العقبات التى تواجه أى خطوة فى الحرب.
خطة فاجأت العدو.. وأبهرت العالم
الخداع الإستراتيجى
حالة التأهب بالقواعد الجوية.. تسريح 30 ألف جندى.. فتح باب العمرة.. وتنظيم الدورات الرياضية .. مناورات عسكرية
حرب 73 أكتوبر وتحرير سيناء نسيج متكامل من الإعداد والتخطيط والتنفيذ لأبطالنا من أبناء القوات المسلحة، وخطة الخداع الاستراتيجي أحد أهم أسباب النصر العظيم، حيث تم خداع دولًا كاملة على رأسها إسرائيل التى لم تكن تتوقع أو تتخيل الهجوم المصرى عليها.
فى يوليو 1972 اجتمع الرئيس السادات مع قادة القوات المسلحة لوضع خطة خداع استراتيجى يسمح لمصر بالتفوق على التقدم التكنولوجى والتسليحى الإسرائيلى عن طريق إخفاء أى علامات للاستعداد للحرب وحتى لا تقوم إسرائيل بضربة إجهاضية للقوات المصرية فى مرحلة الإعداد على الجبهة، واشتملت الخطة على ستة محاور رئيسية:
الجبهة الداخلية
المحور الأول يتعلق بالجبهة الداخلية، وتضمن عدة إجراءات منها استيراد مخزون استراتيجى من القمح، عن طريق تسريب معلومات بأن أمطار الشتاء قد غمرت صوامع القمح، وأفسدت ما بها، وتحوّل الأمر لفضيحة إعلامية استوردت مصر على أثرها الكميات المطلوبة، بالإضافة إلى إخلاء المستشفيات تحسباً لحالات الطوارئ، وذلك عن طريق تسريح ضابط طبيب من الخدمة وتعيينه بمستشفى الدمرداش، ليعلن عن اكتشافه تلوث المستشفى بميكروب، ووجوب إخلائها من المرضى لإجراء عمليات التطهير، وفى اليوم التالى نشرت «الأهرام» الخبر معربة عن مخاوفها من أن يكون التلوّث قد وصل إلى مستشفيات أخري، فصدر قرار بإجراء تفتيش على باقى المستشفيات، وأخليت جميعها.. كما تم استيراد مصادر بديلة للإضاءة أثناء تقييد الإضاءة خلال الغارات، عن طريق تنسيق أحد المندوبين مع مهرب قطع غيار سيارات لتهريب صفقة كبيرة من المصابيح مختلفة الأحجام، وبمجرد وصول الشحنة كان رجال حرس الحدود فى الانتظار، واستولوا عليها كاملة وتم عرضها بالمجمعات الاستهلاكية، ومن أجل تقليل الانتباه العام دعا الفريق أول أحمد إسماعيل جميع وزراء الحكومة يوم 27 سبتمبر 1973 لزيارة هيئة الأركان العامة لإطلاعهم على الجديد من الأجهزة المكتبية والحاسبات الآلية.
نقل المعدات للجبهة
المحور الثانى تضمن إجراءات تتعلق بنقل المعدات الثقيلة للجبهة كالدبابات، عن طريق نقل ورش التصليح إلى الخطوط الأمامية، ودفع الدبابات إلى هناك فى طوابير بحجة إصابتها بأعطال، كما تم نقل معدات العبور والقوارب المطاطية عن طريق تسريب المخابرات تقريراً يطلب فيه الخبراء استيراد كمية مضاعفة من معدات العبور مما أثار سخرية إسرائيل، وعندما وصلت الشحنة ميناء الإسكندرية، ظلّت ملقاة بإهمال على الرصيف حتى المساء وفى ظل إجراءات أمنية توحى بالاستهتار واللامبالاة، وأتت سيارات الجيش فنقلت نصف الكمية إلى منطقة صحراوية بضاحية «حلوان»، وتمّ تكديسها وتغطيتها على مرمى البصر فوق مصاطب لتبدو ضعف حجمها الأصلي، فيما قامت سيارات مقاولات مدنية بنقل الكمية الباقية للجبهة مباشرة.
خداع ميدانى
المحور الثالث، خداع ميداني، وضمن إجراءات منها توفير معلومات حيوية سمحت ببناء نماذج لقطاعات خط بارليف فى الصحراء الغربية لتدريب الجنود عليها وخداع الأقمار الصناعية لملء المعسكر بعدد من الخيام البالية والأكشاك الخشبية المتهالكة، ولافتات قديمة لشركات مدنية، وفى يوليو 1972 صدر قرار بتسريح 30 ألفاً من المجندين منذ عام 1967 وكان معظمهم خارج التشكيلات المقاتلة الفعلية، وفى مواقع خلفية. التمويه برفع درجة الاستعداد القصوى للجيش وإعلان حالة التأهب فى المطارات والقواعد الجوية من 22 إلى 25 سبتمبر، مما يضطر إسرائيل لرفع درجة استعداد قواتها تحسباً لأى هجوم، ثم يعلن بعد ذلك أنه كان مجرد تدريب روتينى حتى جاء يوم 6 أكتوبر فظنت المخابرات الإسرائيلية أنه مجرد تدريب آخر وبدأ القتال تحت ستار المناورة العسكرية المشتركة «تحرير 23»، ثم استبدلت خرائط التدريب بخرائط العملية «بدر» وكانت البرقيات والرسائل المصرية التى تعترضها المخابرات الإسرائيلية تؤكد أنباء تلك المناورة مما أدى إلى استبعاد إسرائيل لفكرة الحرب.
فى أكتوبر 1973 تم الإعلان عن فتح باب رحلات العُمْرة لضباط القوات المسلحة والجنود، وكذا تنظيم دورات رياضية عسكرية مما يتنافى وفكرة الاستعداد للحرب، كما شوهد الجنود المصريون على الضفة الغربية للقناة صبيحة يوم الحرب وهم فى حالة استرخاء وخمول، ويتظاهر بعضهم بأكل القصب وأكل البرتقال، ولإخفاء نية القوات البحرية فى إغلاق مضيق باب المندب، نشر خبر صغير فى شهر سبتمبر عام 1973، عن توجه 3 قطع بحرية مصرية إلى أحد الموانئ الباكستانية لإجراء العمرات وأعمال الصيانة الدورية لها، وبالفعل تحركت القطع الثلاث إلى ميناء عدن وهناك أمضت أسبوعاً ثم صدر لهم الأمر بالتوجه إلى أحد الموانئ الصومالية فى زيارة رسمية استغرقت أسبوعاً آخر لزيارة بعض الموانئ الصومالية، ثم عادت القطع الثلاث من جديد إلى عدن وهناك جاءتهم الإشارة الكودية فى مساء الخامس من أكتوبر 1973 بالتوجه إلى مواقع محددة لها عند مضيق باب المندب فى سرية تامة عند نقط تسمح لها بمتابعة حركة جميع السفن العابرة فى البحر الأحمر رادارياً وتفتيشها، ومنع السفن الإسرائيلية من عبور مضيق باب المندب طوال الحصار.
خداع سيادى
أما عن الخداع السيادى فقد تم اختيار موعد هجوم تحتفل فيه إسرائيل بعيد الغفران اليهودي، وتغلق خلاله المصالح الحكومية بما فيها الإذاعة والتليفزيون كما اختير على أساس الظروف المناخية والسياسية المواتية، كما كان المجتمع الإسرائيلى منشغل بالمعارك الانتخابية التشريعية، كما تم الإعلان عن زيارة قائد القوات الجوية اللواء حسنى مبارك إلى ليبيا يوم 5 أكتوبر، ثم تقرر تأجيلها لعصر اليوم التالى 6 أكتوبر 1973. . وجه المشير أحمد إسماعيل الدعوة إلى وزير الدفاع الرومانى لزيارة مصر فى الاثنين 8 أكتوبر وأعلن رسمياً أنه سيكون فى استقباله شخصياً لدى وصوله إلى مطار القاهرة، كما أعلن رسمياً عن الاستعداد لاستقبال الأميرة مارجريت صباح الأحد 7 أكتوبر.
استعدادات القوات المسلحة
وعن استعدادات القوات المسلحة فقد اشتملت الخطة على تحييد دور الملحقين العسكريين وضباط المخابرات بالسفارات بوضعهم تحت رقابة صارمة لمنع وصولهم إلى معلومات تمس سرية الاستعداد للحرب، حتى وصل الأمر إلى ترحيل الملحق العسكرى الإسبانى مصاباً خلال معركة بالأيدى على متن طائرة إسعاف، لنقله تحركات سلاح الطيران المصرى دقيقة بدقيقة.
تضليل العدو
أما عن إجراءات تضليل العدو فتم عن طريق توفير المعلومات السرية عن العدو وتضليله عن طريق رجال جهاز المخابرات العامة ومنهم أشرف مروان، ورفعت الجمال «رأفت الهجان»، أحمد الهوان «جمعة الشوان»، كما استخدمت اللهجة النوبية لتشفير الرسائل الهامة بين القوات أثناء المعركة لتضليل معترضى تلك الرسائل.
الرئيس السادات رحب باقتراح « إدريس» .. وطلب منه ألا يخبر به أحداً
البطل «أحمد إدريس»
صاحب الفكرة العبقرية
«الشفرة النوبية»
لغة تنطق ولا تكتب..
هزمت الغطرسة الإسرائيلية
المساعد أحمد محمد أحمد إدريس، الشهير بـ «أحمد إدريس»، أحد أبطال حرب أكتوبر 1973، ابن القوات المسلحة، صاحب فكرة «الشفرة النوبية» أو اللغة النوبية التى استخدمت فى الحرب، ووقف أمامها العدو الإسرائيلى عاجزاً بكل ما يمكنه من إمكانيات.
قصة المساعد أحمد إدريس، كما رواها قبل وفاته، بدأت عندما تطوع بالجيش المصرى فى سلاح حرس حدود فى عام 1954 وحتى عام 1994، وأثناء فترة تولى الرئيس الراحل محمد أنور السادات الرئاسة، كانت توجد هناك بعض المشاكل من أهمها عملية فك الشفرات، فأمر القادة العسكريين بإيجاد حلول جذرية لتلك المشكلة، ومن حسن الحظ كان منتدباً مع رئيس الأركان «أحمد محمد أحمد تحسين شنن»، وفى أحد الأيام سمع ما دار بينه وبين العقيد «عادل سوكة» بخصوص ذلك الموضوع، فاقترح عليه استخدام اللغة النوبية كشفرة غير معروفة، لكونها فى الأساس لغة تنطق ولا تكتب، ولن يستطيع أحد فك طلاسمها غير النوبيين فقط، فكان كلامه هذا أحد أسباب استدعائه إلى رئاسة الجمهورية لمقابلة الرئيس محمد أنور السادات، بعدما علم بمدى أهمية ما ذكره بطريقة قد تبدو عفوية، وبالفعل توجه إلى قصر الرئاسة وقابل الرئيس وشرح له بالتفصيل قصة هذه اللغة وكيفية توظيفها واستخدامها لتصبح شفرة غير مفهومة، وذكر له أيضاً النوبيون الذين يتحدثونها بطلاقة تامة على خلاف غيرهم من الذين تم تهجيرهم بعد عام 1964، وقد أعجب بالفكرة الرئيس، وطلب منه عدم إخبار أى شخص بهذا السر مهما كان، وذلك نظراً لخطورته وأهميته القصوى فى تلك الفترة، وبعدها حصل على إجازة لمدة 10 أيام، عاد للوحدة وفوجئ بخطاب من قيادة الجيش يتضمن إحضار الرقيب أحمد محمد أحمد إدريس بكامل مهماته الى القيادة، وعندما ذهب إلى قيادة الجيش وجد بالفعل العديد من الأفراد النوبيين، ثم تم وضعهم فى معسكر مغلق، تدربوا خلاله على استخدام جهاز صغير مع معرفة كيفية إصلاحه، فكانت مهمتهم هى العبور خلف خطوط العدو عن طريق قوارب مطاطية والتمركز فى أبيار «صهاريج المياه» التى تتجمع فيها مياه السيول، وذلك لمتابعة تحركات العدو من حيث أعدادهم وأماكن تنقلهم، وبدأوا العمل على نقل أخبارهم، فضلاً عن حصر عدد مركباتهم حيث كانوا لا يسيرون على أقدامهم، بل كانوا يستخدمون المدرعات أو الدبابات فى السير، وبناءً على حصر أعدادها كان من الممكن معرفة أعداد هؤلاء الجنود الإسرائيليين الموجودين هناك.
وفى أحد الأيام وقت الظهيرة، سمعوا تحركات شديدة وأصوات الدبابات التى كانت تسير فوق الأبيار التى كنا نمكث فيها، ثم شعرنا بالهدوء فجأةً، فتسللوا لمعرفة ذلك عند الغروب، فوجدوا أكثر من 200 تريلة محملة بالكثير من الدبابات الإسرائيلية الجديدة وهى فى طريقها إلى خط الأوسط، فقمنا على الفور بإبلاغ هذه المعلومة، فقام قائد الطيران آنذاك بإرسال طائرات قامت بضرب هذه التريلا حتى تحولت إلى كتل متهالكة لا تصلح لأى شيء، ونجحت هذه العملية بالفعل فى تدميرها بالكامل، وفى مساء اليوم الخامس من شهر أكتوبر تم سحب كل الجنود الموجودين خلف خطوط العدو، وانضموا إلى الوحدات، لتبدأ المعركة بين القوات المصرية والإسرائيلية والتى انتهت بالنصر المبين.