منذ عصر صلاح الدين الأيوبى اعتاد حكام مصر الانعزال عن الشعب فى قلعة الجبل، فى مكان عالٍ حصين مرتفع يشرفون على المدينة من أعلى ويضربونها بالمدافع فى حالات التمرد والثورة والعصيان، وكانت قلعة الجبل هى مقر الحكم إلى عهد الأيوبيين ثم المماليك ثم الحكم العثمانى على مصر وحتى محمد على باشا. وعندما جاء الخديو إسماعيل تغير الأمر تماماً وقضى على فكرة بقاء الحاكم خارج المدينة بعد نحو 07 عاماً من العزلة، حيث شعر أن هذا الوضع لا يتفق مع رؤيته وأمله فى إنشاء عاصمة مصرية فى مقر جديد يكون هو مقر الحكم . من هذه الفكرة ظهر واحد من أهم أحياء القاهرة الذى يتميز حتى الآن بطابع معمارى فريد يجمع بين الأصالة والمعاصرة «حى عابدين»، ويرجع تاريخ هذا الحى إلى عهد الخديو إسماعيل عندما جاء إلى مصر حاكماً وكان يبحث عن انشاء عاصمة مصرية لمصر وتمنى ان ينظم القاهرة كما لو كانت حى الإسماعيلية . وهذا الحى الجميل ، قلب القاهرة، كانت قديماً مجموعة من البرك الراكدة ومنها بركة الفراعين وبركة الفواكه وبركة الناصرية وبركة الشعانين ومجموعة من المستنقعات تتخللها سلسلة هضاب وكثبان رملية بالإضافة إلى بعض القلاع التى أقامتها قوات الاحتلال الفرنسي. وقد أصدر الخديو إسماعيل أوامره لوزير الأشغال على باشا مبارك باعداد المكان فما كان منه إلا أن فتح طرقاً جديدة ودروباً وأزقة وأقام ميداناً فسيحاً وخطط لبناء قصر جديد يكون مقرًا للحكم ، وقد بدأ العمل فى بناء ذلك المقر عام 3681 وهو العام الذى تولى فيه الحكم واستمر العمل فيه حتى عام 2781 بتكلفة وصلت إلى 566 الفاً و 057 جنيهاً للقصر والميدان . وبطبيعة الحال قبل أن يبدأ العمل فى بناء القصر وفتح الشوارع من حوله جعل وزير الأشغال على باشا مبارك ينشر رجاله يتصلون بكل من يملك بيتاً فى هذه المنطقة ليشتروا منهم الارض ويدفعون لهم تعويضات مجزية ، وعندما تم تنظيم عابدين تم أخذ بعض الجوامع وأزيلت بعض الحارات تماماً . ولم يكن حى عابدين مقراً للحكم بل أصبح دائرة للحكم حيث تجمعت حوله مقار النظارات «الدواوين والوزارات» فنجد أنه فى شارع الدواوين «نوبار باشا» حالياً مقر المصالح الحكومية والوزارات ومجلس الوزراء، حيث نجد مقر إسماعيل باشا المفتش وزير المالية وكان مقراً لمجلس الوزراء قبل ان يتحول إلى وزارة المالية كما نجد وزارة الداخلية ووزارة العدل وغيرهما . ولم يتوقف الأمر عند ذلك فقط فقد بنيت بيوت رجال السياسة حول القصر ومنها منزل سعد باشا زغلول وحسين باشا رشدى ومحمود باشا الفلكى وغيرهم . بالإضافة إلى مقار الأحزاب الكبرى والقنصليات والسفارات ، وعندما لم يتسع الحى لإقامة جميع الجهات المتصلة بالحكم كان لا بد من البحث عن مكان آخر قريب فتم الاتجاه إلى الحى الجديد «جاردن سيتي» ليصبح مقراً لسكن كل من يعمل بالمصالح والوزارات. وتطور الأمر فى حى عابدين حيث أصبح الميدان يحمل اسم ميدان الجمهورية وأصبح شارع عابدين شارع الجمهورية ويصبح شارع عماد الدين وشارع محمد فريد وشارع دار النيابة ثم أصبح شارع النواب ثم شارع مجلس الشعب وحول البرلمان نجد الوزارات. وقد تم هدم وزارة الشئون الاجتماعية لإفساح مكان لمترو الأنفاق ووزارة الأشغال قبل انتقالها إلى منطقة إمبابة لإفساح مكان لمجلس الشورى ووزارة الصحة وغيرهما . ومن ابرز المواقع فى هذه المنطقة محكمة عابدين وعدد من المدارس الأجنبية مثل المدرسة الفرنسية ومدرسة الألمان الكاثوليك والكلية الأمريكية التى تحولت فيما بعد إلى الجامعة الأمريكية، أما المساجد الأثرية فقد تجمع فى حى عابدين عدد منها جميعها تعتبر تحفة معمارية وهى مسجد جنبلاط، ومسجد سلطان شاه، ومسجد كخيا، ومسجد الشيخ عبد الله، ومسجد الفتح بقصر عابدين ومسجد البطولى ومسجد جركس، ومسجد الطباخ، ومسجد الشيخ رمضان ومسجد الخلوتي، ومسجد الشامية ومسجد أبو طبل ومسجد الخواص والشاذلى . وهكذا يجتمع التاريخ المصرى القديم وآثاره وذكرياته فى حى عابدين .