لم يكن المثل المصري «على قد لحافك مد رجليك» يومًا نصيحة منزلية بريئة، بل كان خلاصة وعي سياسي شعبي تشكّل عبر قرون من الخبرة بالسلطة والموارد وحدود الاحتمال. فالمثل لا يجرّم الطموح، لكنه يضع له شرطًا قاسيًا: أن يُدار بميزان القدرة لا باندفاع الرغبة. ومن هنا يمكن فهم ما يمكن تسميته بـ نظرية «اللحاف الممدود» في إدارة الشأن العام والعلاقات الدولية.
>>>
في الإقليم الذي نعيش فيه، لا تعاني الدول من نقص الطموح بقدر ما تعاني من سوء تقدير طول اللحاف. الجميع يريد دورًا إقليميًا، ونفوذًا يتجاوز الحدود، وحضورًا على طاولات التفاوض الكبرى، حتى لو كان الداخل مثقلًا بالأزمات الاقتصادية، أو الانقسامات الاجتماعية، أو هشاشة المؤسسات. النتيجة أن الأقدام تمتد كثيرًا، بينما اللحاف يظل قصيرًا، والبرد لا يرحم.
>>>
في السنوات الأخيرة، رأينا دولًا اندفعت إلى ما وراء حدودها الجغرافية والسياسية، خاضت صراعات بالوكالة، أو فتحت جبهات دبلوماسية واقتصادية لا تحتملها بنيتها الداخلية. في البداية بدا الأمر استعراض قوة، ثم تحول تدريجيًا إلى استنزاف صامت. فالقدم التي تخرج من تحت اللحاف لا تصرخ فورًا، لكنها تتجمد ببطء، إلى أن يصبح الألم واقعًا سياسيًا يصعب إنكاره.
>>>
الأخطر أن هذا التمدد غالبًا ما يُبرَّر بخطاب شعبوي: حماية الأمن القومي، استعادة الدور التاريخي، أو مواجهة خصوم الخارج. وهي عناوين مشروعة في ظاهرها، لكنها تصبح خطيرة حين تُستخدم لتغطية غياب الأساس الاقتصادي والاجتماعي القادر على تحمّل كلفتها. فالأمن القومي لا يُحمى بخطابات ممتدة، بل بداخل متماسك، واقتصاد قادر على الصمود، ومجتمع لا يشعر أن السياسة الخارجية تُدار على حساب معيشته اليومية.
>>>
لكن نظرية اللحاف الممدود لا تعني أن الحل هو الانسحاب الكامل أو إدارة الظهر للإقليم. فالفراغ في السياسة لا يبقى فراغًا طويلًا، بل تملؤه قوى أخرى بسرعة. هناك لحظات يصبح فيها التمدد ضرورة إستراتيجية، ليس بحثًا عن المجد، بل لمنع التهميش أو الخروج من معادلة التأثير. الفرق أن هذا التمدد يجب أن يكون انتقائيًا، محدود الأهداف، ومربوطًا بقدرة العودة الآمنة إلى داخل اللحاف.
>>>
الإشكالية الإقليمية الكبرى أن كثيرًا من الدول لا تملك رفاهية التراجع بعد التمدد. فالسياسة تتحول إلى سلسلة التزامات يصعب كسرها دون تكلفة معنوية أو استراتيجية. وهنا يتحول الخطأ الأول، أي سوء تقدير طول اللحاف، إلى خطأ مركّب، لأن العودة إلى الداخل تصبح هي الأخرى مؤلمة، وربما مكلفة أكثر من الاستمرار في التمدد.
>>>
السؤال الحاسم إذن ليس: هل نملك الحق في مد أقدامنا خارج حدودنا؟
بل: هل نملك القدرة على تحمّل البرد الناتج عن هذا القرار؟
وهل لدينا خيار واقعي للعودة حين تتغير الظروف؟
>>>
في الإقليم، تبدو الإجابة في كثير من الحالات سلبية. فمقاس الطموح أكبر من مقاس الموارد، ومعدل التوسع أسرع من قدرة الداخل على الترميم. وهنا تظهر الفجوة بين السياسة كما تُعلن، والسياسة كما تُعاش.
>>>
في النهاية، تفرض نظرية اللحاف الممدود درسًا قاسيًا: الدولة التي لا تعرف متى تضم أقدامها، قد لا تجد لحافًا تعود إليه. فالتمدد بلا حساب لا يصنع قوة، بل يؤجل لحظة الانكشاف. وفي منطقة لا ترحم الضعفاء ولا تحمي المتهورين، قد تكون الحكمة السياسية هي القدرة على التمييز بين لحظة الجرأة، ولحظة الانضباط، قبل أن يتحول البرد إلى قدر دائم.









