لم تعد التحولات الجارية فى النظام الدولى قابلة للفهم بمعزل عن الوثائق الرسمية التى تُعبّر عن رؤية القوى الكبرى لنفسها وللعالم. وفى مقدمة هذه الوثائق تأتى إستراتيجية الأمن القومى الأمريكي، التى لم تعد مجرد إطار نظري، بل خريطة طريق لإدارة الصراع العالمى فى مرحلة ما بعد الهيمنة الأحادية.
>>>
فالإستراتيجية الأمريكية فى نسختها الأحدث تنطلق من إقرار صريح بحقيقة لا يمكن إنكارها:
الولايات المتحدة لم تعد القوة المنفردة القادرة على ضبط النظام الدولي، وأن العالم يتجه نحو تنافس إستراتيجى طويل الأمد مع قوى صاعدة، فى مقدمتها الصين، تليها روسيا، ومعهما قوى إقليمية تسعى لتوسيع نفوذها.
>>>
ومن هذا المنطلق، أعادت واشنطن تعريف مفهوم الأمن القومي، فلم يعد مقتصرًا على التفوق العسكري، بل امتد ليشمل سلاسل الإمداد، والطاقة، والتكنولوجيا المتقدمة، والممرات البحرية، والفضاء السيبراني، والتحالفات المرنة. وهو ما يفسر عودة الاهتمام الأمريكى بالمناطق التى اعتُبرت سابقًا ساحات ثانوية، وفى مقدمتها الشرق الأوسط والقارة الإفريقية.
>>>
غير أن اللافت فى المقاربة الأمريكية الجديدة هو الانتقال من منطق القيادة المنفردة إلى منطق إدارة التوازنات عبر الشركاء، لا الحلفاء التقليديين فقط. الولايات المتحدة باتت تطلب من الدول «الاصطفاف» معها فى مواجهة الخصوم، لكنها فى الوقت ذاته لم تعد قادرة- ولا راغبة أحيانًا- فى دفع كلفة القيادة الكاملة.
>>>
فى هذا السياق، تبدو القارة الإفريقية ساحة مركزية فى الحسابات الأمريكية، ليس فقط لمواجهة النفوذ الصينى والروسي، بل لضمان أمن الموارد والمعادن الإستراتيجية، وتأمين خطوط التجارة العالمية، ومنع تشكّل فراغات أمنية تستغلها قوى منافسة. لكن هذه العودة الأمريكية تصطدم بواقع جديد: دول أفريقية أكثر وعيًا، وأقل استعدادًا لقبول المشروطيات السياسية أو الأيديولوجية.
>>>
وهنا يبرز النموذج المصرى بوصفه حالة تستحق التوقف والتحليل.
ففى ظل هذا المشهد الدولى المضطرب، اختارت مصر طريقًا مختلفًا، يمكن توصيفه بدقة عبر مفهوم «الاتزان الإستراتيجي».
>>>
الاتزان الإستراتيجى فى السياسة المصرية لا يعنى الحياد، ولا الابتعاد عن الشراكات، بل يعنى تنويع دوائر الحركة، وتعدد الشركاء، ورفض الارتهان لمحور واحد. مصر تدرك أن النظام الدولى الجديد لا يكافئ التبعية، بل يمنح المساحة لمن يملك القدرة على المناورة الذكية وحماية مصالحه الوطنية.
>>>
من هذا المنطلق، حافظت مصر على علاقات إستراتيجية مع الولايات المتحدة، إدراكًا لأهمية هذه العلاقة عسكريًا واقتصاديًا، وفى الوقت ذاته عمّقت شراكاتها مع روسيا، ووسّعت تعاونها مع الصين، وانفتحت على قوى إقليمية ودولية صاعدة، دون أن تدخل فى صدامات مجانية أو اصطفافات صفرية.
>>>
ورقة الاتزان الإستراتيجى المصرية تتقاطع- بوعى أو بدون- مع التحول فى الإستراتيجية الأمريكية نفسها. فواشنطن اليوم تحتاج شركاء مستقرين، قادرين على إدارة أقاليمهم، لا إلى تابعين ينتظرون التوجيه. ومصر، بحكم موقعها الجغرافي، وثقلها السكاني، ودورها الإقليمي، تمثل نموذجًا لدولة تسعى إلى لعب دور «ركيزة استقرار» لا مجرد ساحة نفوذ.
>>>
لكن السؤال الأهم لا يوجَّه إلى واشنطن، بل إلينا نحن:
كيف نحسن توظيف هذا الاتزان؟
وكيف نحوّله من خيار تكتيكى إلى رؤية إستراتيجية مستدامة تعزز استقلال القرار الوطني، وتُعظم المصالح الاقتصادية، وتمنح مصر مساحة أوسع للتأثير الإقليمى والدولي؟
>>>
العالم يعاد تشكيله، وإستراتيجية الأمن القومى الأمريكى تعكس هذا الإدراك بوضوح. أما الدول التى تنجح، فهى تلك التى لا تُراهن على طرف واحد، ولا تضع بيضها فى سلة واحدة، بل تمتلك وضوح الرؤية وجرأة القرار.
>>>
وفى لحظة تاريخية كهذه، يبدو أن الاتزان الإستراتيجى ليس رفاهية سياسية، بل شرط أساسى للبقاء والتأثير.









