بهذه العبارة المكثفة أنهى نوبار باشا مذكراته فى مايو 1894، بعد سنوات طويلة قضاها فى قلب إدارة الدولة المصرية، فى زمن بالغ التعقيد، كانت فيه مصر نقطة التقاء وصدام بين الشرق والغرب. لم يكن القلق الذى عبّر عنه قلق رجل يودّع منصبه، بل قلق دولة تدرك ثقل موقعها، وخطورة أن تتحول من وطن إلى مسألة.
>>>
سؤال نوبار كان واضحًا ومباشرًا:
هل ما تمر به مصر حالة دائمة أم مرحلة عابرة؟
وهل ستظل، كما فى الماضي، عرضة لقوى أجنبية وسلالات وافدة، انتهى بها الحال دائمًا إلى أن تذوب داخل هذا البلد الذى يملك قدرة عجيبة على استيعاب الغزاة ثم تجاوزهم؟
>>>
بعد أكثر من قرن، يظل السؤال نفسه مطروحًا، وإن تغيّرت الأزمنة والظروف. فالقلق على الدولة لم يكن يومًا حكرًا على جيل بعينه، بل سمة ملازمة لكل من يدرك أن بقاء الدول لا يُضمن بالتاريخ وحده، ولا بالموقع، وإنما بما يُبنى فى الداخل.
>>>
نوبار باشا رأى مصر وقد أصبحت جزءًا مما كان يُعرف آنذاك بـ«المسألة الشرقية»، أى دولة تحوّلت إلى ملف مفتوح تتنازعه المصالح الكبري، قبل أن تكون كيانًا مستقلًا يقرر مصيره بنفسه. وكان يخشى أن تبقى مصر عالقة فى هذه الدائرة، بلا فرصة حقيقية للخروج منها كحالة خاصة، لا كموضوع للصراع.
>>>
وفى بحثه عن سبيل النجاة، لم يذهب نوبار إلى الحلول الصاخبة، ولا إلى منطق القوة والعنف، بل إلى ما اعتبره الأساس الحقيقى لبناء الدول: العدالة.
عدالة تُمارس لا تُرفع، وتُطبق فى أوقات الشدة قبل الرخاء، وتصنع دولة قادرة على النهوض من داخلها، لا بالارتهان للخارج، ولا بالاعتماد على توازنات مؤقتة.
>>>
غير أن نوبار لم يكن رومانسيًا. أقرّ بوضوح أن العدالة جاءت متأخرة، وإن قبل أن تترسخ دخل عامل آخر غيّر موازين الأمور، هو افتتاح قناة السويس. مشروع بالغ الأهمية، لكنه فى الوقت نفسه ربط مصير مصر أكثر من أى وقت مضى بمصالح كبرى لا تملك السيطرة عليها بالكامل، وجعلها فى قلب صراع دولى دائم.
>>>
ورغم ذلك، ظل نوبار مؤمنًا بأن الحل السلمى ممكن، عبر التطوير، وبناء البنية الأساسية، ومدّ السكك الحديدية، باعتبارها أدوات للاستقرار قبل أن تكون مشروعات اقتصادية. وكان يرى أن أخطر ما ينقص الشرق ليس الموارد، بل الأمان؛ الأمان الذى يشعر فيه المواطن أن جهده مصون، وأن ثمرة تعبه لن تُنتزع منه ظلمًا أو فوضى.
>>>
وعندما عجز عن التنبؤ بالمستقبل السياسي، اتجه نوبار إلى قراءة الشعب نفسه. وصف المصريين بأنهم شعب بسيط، مرح، رقيق كالأطفال، لكنه قادر فى لحظة على التحول إلى عناد صلب. شعب مرّت فوق أرضه أمم وجيوش، من الهكسوس إلى المماليك، تركوا آثارهم وبصماتهم، ثم رحلوا وبقى هو.
>>>
استُغل هذا الشعب كثيرًا، وبنى بعرقه ما يبهر العالم، بينما قلّ من التفت إلى الألم الذى تحمّله. ومع ذلك، لم يستطع أحد أن ينفذ إلى أعماقه. ظل ساكنًا كالمحيط، يخفى فى هدوئه قوة لا تُرى، لكنها حاسمة عند اللحظة الفاصلة.
>>>
ويرى نوبار أن التحول الأهم بدأ حين دخلت العدالة إلى حياة الفرد، لا بوصفه جزءًا ذائبًا فى الجماعة، بل إنسانًا له حق، وله ما يحمى ثمرة جهده. هنا تغيّرت العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وهنا فقط بدأت ملامح الدولة الحديثة فى التشكّل.
>>>
هذه الرؤية، رغم أنها كُتبت فى القرن التاسع عشر، تشبه إلى حد بعيد قلق رجال الدولة فى كل عصر. القلق هنا ليس ضعفًا، بل وعي، وإدراك بأن الدولة القوية لا تُبنى بالشعارات، بل بالعدل، والتنظيم، وبناء الثقة بين السلطة والمجتمع.
>>>
إنها روشتة قديمة فى كلماتها، لكنها شديدة الحداثة فى معناها.
روشتة تقول إن مصر لا يحميها الزمن، بل ما يُصنع فيها من عدالة وأمان.
وأن القلق على الدولة، حين يكون صادقًا، قد يكون أول طريق النجاة.









