هناك أوبئة تُعلَن، وتُحاط بسياجات الحجر الصحي، وتُوجه لمكافحتها جيوش من الأطباء والمعدات، وهناك وباء آخر..أعمق فتكاً، يدخل دون استئذان إلى فصول المدارس، ومكاتب العمل والشارع والمواصلات، بل وإلى غرف النوم عبر شاشات صغيرة تتلألأ فى الظلام.. إنه الوباء الخفي: «التنمر».. وهو عملية منهجية لتكسير الروح البشرية قبل الجسد، وهو لا يدمر الضحية فقط، بل يدمر الجلاد الصغير الذى يتدرب على القسوة، ويدمر المشاهد الصامت الذى يتعلم اللامبالاة.. فهو «ثلاثية الخراب الذى ينخر فى عظام المجتمع».
التنمر هو المرآة التى تعكس تحولاً خطيراً فى المنظومة القيمية للمجتمع. عندما تتحول القوة – جسدية كانت أونفسية أو رقمية – إلى عملة للتداول الاجتماعي.
فى الماضي، كانت الأسرة والحارة والمدرسة التقليدية الصارمة تشكل شبكة أمان ضد هذه الظاهرة.. أتذكر أياماً كان فيها المعلم يملك هيبة الأب، والجار يملك سلطة الأخ الأكبر، كانت الكلمة الجارحة تُقابل بزجر جماعي، لقد كنا مجتمعاً له جهاز مناعى أخلاقى قوي.
ومن أرشيف الذاكرة المصرية الحديثة، هناك حوادث لاتُنسى لأنها تكشف عن شرخ عميق فى جدارنا الأخلاقي، واحدة من تلك الحوادث التى ظلت تلاحقنى كشاهد عيان، حادثة الطفل «يوسف» فى الإسكندرية عام 2018 – ذلك الفتى الذى قُذف من فوق سطح مدرسته بعد تعرضه لتنمر وحشى مستمر.
قصة يوسف تحولت إلى مرآة كسرت وجه المجتمع المصري، وأرغمته على النظر إلى الوحش الذى كان يربيه فى فصول الدراسة وأحيـــاء السكن، وهنا أتذكر ما كتبـــه طه حســـين فى «الأيـــام» عن قســـوة التعليــم فى الأزهر القديم، لكن الفارق الجوهرى: كانت قسوة ذلك الزمن تهدف إلى صياغة الرجال، أما قسوة عصرنا فتهدف إلى تحطيم الأطفال، وبذلك فإن التنمر ينتج جيلين: الأول.. ضحايا تحطمت ثقتهم بأنفسهم، وهم الوقود المستقبلى للتبعية والاستسلام، والثاني: جلادون تدربوا على القسوة، وهم الجنود المستقبليون للفساد والاستبداد.
أرقام صادمة
> كشفت دراسة لـ «المجلس القومى للطفولة والأمومة» أن 85 ٪ من طلاب المدارس اعترفوا بتعرضهم لشكل من أشكال التنمر.
> دراســـة لـ «البنــك الدولى» أشـــارت إلى أن التنمـــــر فى المدارس المصرية يتسبب فى هدر تعليمى يقدر بنسبة 20 ٪ من الإنفاق التعليمي.
والسؤال الآن.. أين كنا حتى أصبح التنمر بتلك القوة وسقط بسببه ضحايا كثيرون.. وإذا لم نتحول من مجتمع المشاهدين على جرائمه، إلى مجتمع المنقذين للأطفال الباقين، فإننا سنكون أمام أمة من اليافعين المجروحين يحملون فى صدورهم غضبًا صامتًا، سينفجر يومًا.
وهناك علامات استفهام مهمة : كيف نبنى جهازاً مناعياً أخلاقياً جديداً لمجتمعنا؟ وكيف نتحول من ثقافة «السيطرة» إلى ثقافة «الرفق»؟، وكيف نبنى مجتمعًا لاينتج متنمرين؟، وكيف نعيد للمدرسة المصرية رسالتها فى صنع الإنسان، لا فى تحطيمه؟









