في صحراء مليحة، حيث احتضنت الرمال دورة استثنائية من مهرجان «تنوير» 2025، لم يكن الختام مجرد إسدال للستار، بل بداية لمسار ثقافي متجدد وحوار ممتد حول تجربة تجاوزت حدود الزمان والمكان. فمع انطفاء الأضواء وعودة الأفق إلى سكونه المهيب، ظل صدى التجربة حاضرًا في ذاكرة ووجدان الحضور، مؤكدًا أن «تنوير» لا يُختزل في أيام معدودة، بل يترك أثرًا إنسانيًا عميقًا يتجاوز لحظة العرض إلى مساحة الوعي والتأمل.
وخلال دورته الثانية، قدّم مهرجان «تنوير» نموذجًا متفرّدًا لمساحة ثقافية لا تكتفي بتقديم العروض الموسيقية أو الفنية، بل تفتح آفاقًا أوسع للتلاقي والحوار. وتحت سماء صحراء مليحة، اجتمع جمهور متنوع من ثقافات وخلفيات مختلفة، ليس بوصفهم متلقين فحسب، وإنما شركاء في تجربة حسية وفكرية أعادت صياغة العلاقة بين الإنسان والفن والطبيعة. ولم تكن الصحراء مجرد خلفية للمشهد، بل عنصرًا حيًّا في السرد، منح اللحظات عمقها وصدقها، وأضفى على التجربة طابعها الفريد.
وما ميّز «تنوير» هذا العام لم يقتصر على ثراء البرنامج أو تنوع العروض والأسماء الفنية المشاركة، بل تجسّد في ذلك الشعور الجمعي بالانتماء إلى لحظة إنسانية نادرة. فقد تلاقت الأصوات العالمية مع الجذور المحلية في مساحة انسجام مفتوحة، تحوّل فيها الفن والموسيقى والثقافة إلى لغة وجدانية مشتركة، تجاوزت الحدود الجغرافية واللغوية، وقامت على التفاعل والإنصات المتبادل بعيدًا عن الاستعراض.
وبذلك، رسّخ «تنوير» مكانته كحدث ثقافي يتجاوز التصنيفات التقليدية، فلم يعد مجرد مهرجان محلي أو محطة إقليمية، بل بات ملتقى دوليًا يوفّر للفنانين والجمهور مساحة حرة للتجربة والتعبير. وجاء حضور الأسماء العالمية متناغمًا مع روح المهرجان، كامتداد طبيعي لرؤية تؤمن بأن الفن لغة إنسانية واحدة، وأن الحوار الثقافي الصادق لا يحتاج إلى ترجمة بقدر ما يحتاج إلى عمق التجربة.
كما برزت قدرة «تنوير» على بناء مجتمع ثقافي عابر للزمان والمكان، تشكّل خلال أيام المهرجان واستمر بعدها في الذاكرة والتواصل. فالكثير من الحضور لم يغادروا التجربة عند بوابات الخروج، بل حملوها معهم في نقاشاتهم وتأملاتهم، وفي إحساس صادق بأنهم كانوا جزءًا من لحظة استثنائية. هذا التراكم الوجداني هو ما يمنح المهرجان فرادته، ويحوّله من فعالية موسمية إلى مساحة انتماء، ومن حدث عابر إلى أثر راسخ يتجدد عامًا بعد عام.
وتقف خلف هذه المسيرة رؤية ثقافية واضحة لمؤسِّسة المهرجان، سمو الشيخة بدور بنت سلطان القاسمي، التي تنطلق من إيمان راسخ بدور الثقافة في بناء الوعي وتعزيز الحوار الإنساني. فمهرجان «تنوير» ليس مشروعًا مؤقتًا، بل مسارًا ثقافيًا مستدامًا يستثمر في الإنسان بوصفه جوهر العملية الإبداعية، ويوازن بين الأصالة والابتكار، وبين الاحتفاء بالتراث والانفتاح على الآفاق المعاصرة.
ومع إسدال الستار على دورة 2025، برز سؤال يتردد في أذهان الحضور: ماذا سيحمل «تنوير» في عام 2026؟ وهو سؤال لم يكن بدافع الفضول العابر، بل نابعًا من شعور بأن التجربة ما زالت مفتوحة على فصول جديدة، وأن ما تحقق ليس نهاية، بل تمهيدًا لما هو آتٍ. فقد تحوّل أثر المهرجان إلى حالة من الترقب، ورغبة في العودة إلى تلك المساحة التي جمعت بين الجمال والمعنى.
وهكذا، يواصل مهرجان «تنوير» حضوره بعد انتهاء فعالياته، بوصفه ذكرى حيّة ووعدًا مفتوحًا بالمستقبل. إنه مهرجان لا ينتهي بانطفاء الأضواء، بل يبدأ من هناك، في الأسئلة التي يطرحها، والأثر الذي يتركه، والأفق الذي يفتحه أمام المشهد الثقافي والفني والموسيقي في المنطقة.









