تاريخ التطرف لا يبدأ عادةً بطلقةٍ تُسمع، بل بجملةٍ خبيثة تُصدَّق وتتسلل إلى الوجدان، ولا يتشكل أولاً فى السلاح، بل فى الوعى الذى يبرر استخدام السلاح قبل أن يخرج من غمده، فالقتل يبدأ فكرةً قبل أن يصير فعلاً، وتبدأ الجريمة كلمةً، قبل أن تصبح دمًا. . وهناك لحظة خفية تقوم فيها الجماعات المؤدلجة بتحويل الدين-وهو فى جوهره أفق رحيم يفتح للناس أبواب الرجاء-إلى أداة فرز وتصنيف، لا رسالة هداية. لحظة يُنتزع فيها الدين من مقاصده، ويُعاد توظيفه ليصير معيارًا تنظيميًا يُفتَّش به فى قلوب الناس، ويُعاد ترتيبهم على درجات، هذا «مؤمن» لأنه يطيع الجماعة، وهذا «متردد» لأنه يسأل، وهذا «متحامل» لأنه يرفض الخضوع لسلطتها على الدين والضمير. . ومن تلك اللحظة لا يتغير الدين، بل يتغير وعى الإنسان بالدين، إذ لا يعود السؤال عن الحق، بل عن الموقع من جماعة تزعم – دون وجه حق – أنها وحدها تحمل «التصور الصحيح» للإسلام !! ..وقبل أن يتحول العنف إلى خبرٍ فى نشرات المساء، يتحول إلى «منطق» فى أذهان أشبال الجماعة، وقبل أن يتعلم الشاب المتطرف كيف يحمل سلاحًا، يتعلم كيف يحمل حكمًا قضائيا: هذا على الحق لأنه معنا، وذاك على باطل لأنه يرفضنا أو ينتقدنا!! .. وحين يستقر هذا الحكم فى القلب البائس، يصبح السلاح تفصيلاً لاحقًا؛ لأن الضمير قد مُهّد له بأن العنف تقوى وتقرب، وبأن الإكراه علاج، وبأن الخصم السياسى أو حتى الفكري، ليس خصمًا بل خطرٌ على الإسلام كما صيغ فى ذهنه المريض.. ولهذا لا يكفى أن نلوم المتطرف حين ينفجر، يجب أن نتأمل النص الذى علّمه أن الانفجار «واجبًا». .وهكذا يجب ألا يلاحق التكفير فقط فى صيغته الغليظة التى اشتهر بها لاحقون، بل يفتش عن لحظة تأسيسه الأولى فى لغة المؤسس مدرس الخط حسن البنا.
1- حين صار التنظيم معيار الإيمان
يقول مدرس الخط حسن البنا فى رسالة التعاليم:
«إن الطاعة للجماعة واجب، والخروج عنها تمرد على وحدة الأمة، ومن يتمرد على وحدة الأمة فإنه يقطع صلته بالإسلام الذى يدعو إلى الاجتماع والوحدة»، والعبارة تبدو كأنها دعوة إلى انتظام الصف، لكنها تحمل تغيرًا خطيراً فى المعني، «الطاعة» ليست التزامًا إداريًا يُحترم فيه العقل ويُراجع، بل «واجب» يرتدى لباس الحكم الشرعى !!، ثم تُنقل المخالفة من كونها اختلافًا أو حتى مراجعة إلى كونها «تمردًا»، فتتحول من فعل سياسى أو تنظيمى إلى فعل أخلاقى مذموم !!، ثم تُستدعى «وحدة الأمة» لتصبح مظلة فوق الجماعة، كأن الجماعة هى التجسيد الحصرى لوحدة المسلمين..وأخيرًا تُغلق الدائرة بجملة لا تحتمل التأويل: من يتمرد «يقطع صلته بالإسلام»!!
هنا تُزرع بذرة تكفير بالنتيجة، لأن قطع الصلة بالإسلام ليس توصيفًا تنظيميًا، بل نزعٌ لمعنى الانتماء الديني، فالبنا يقول صراحة إن المختلف مع التنظيم يعتبر «خارجًا» لا «مخالفًا»، بل يعتبر أن الإسلام نفسه مشروطًا بالطاعة لجماعة الإخوان!!
إنها معادلة تسحب الدين من سمائه الواسعة إلى بطاقة عضوية فى الإخوان.. إن كنت داخل الجماعة فأنت داخل الإسلام، وإن خرجت فأنت تقطع صلتك به!!
ثم إن استعمال مفردة «وحدة الأمة» فى هذا السياق ليس بريئًا، لأنها كلمة تثير رهبة دينية وعاطفية، فمن يعارض الجماعة سيُرى وكأنه يعارض الوحدة نفسها، وبمجرد أن تُلبس الخصومة ثوب الوحدة، تُسحب منها شرعية الرأي، فلا يعود المختلف صاحب وجهة نظر، بل صاحب «تمرد»!! ومن هنا تصبح القطيعة معه «حماية»، لا ظلماً، لأنه – وفق قاموس حسن البنا -هو من قطع صلته بالإسلام، وبهذا المنطق تنقلب المعانى والممارسات: يصبح الإقصاء فضيلة، ويغدو التسامح تهاونًا، وتتحول الرحمة إلى ضعفٍ لا يليق بـ»الجنود» كما وصف حسن البنا أتباعه!!.. وبين كل درجة ودرجة تتراكم آثار صغيرة، كاحتقار المختلف، الشماتة فيه، اتهامه فى دينه، ثم تبرير اقصاءه!!
هكذا تتسلسل القسوة كما تتسلسل الجملة، خطوةً وراء خطوة، حتى يبدو الشر عبادة إخوانية، وهنا لا يعود الإجرام انحرافًا، بل يُعاد تقديمه بوصفه التزامًا دينيا، وتُمسخ الجريمة إلى فريضة!!
2- الوصاية الإخوانية على الضمير
ما إن يتم تديين الطاعة حتى يتغير ترتيب الفضائل فيصبح أهم ما فى التدين أن تلتزم بالأوامر التنظيمية لا أن تزنها بميزان الحق والعدل، ميزان الحكمة والمنطق، فيصبح النقاش ترفًا، لأن «الواجب» لا يناقَش بل يُنفذ.. ويتحول الخطأ من رأيٍ «اجتهاد» قابل للمراجعة إلى خطر يهدِّد «وحدة الجماعة»، بهذه الروح ينشأ نموذج الإنسان الذى لا يُراجع، لأن المراجعة تُصوَّر فى الوعى الإخوانى كَشَقٍّ للصف وتهديد للأمة، ثم كتهديد للإسلام ذاته وفق العبارة المؤسسة!!
ومن هنا يتسرب الاستعلاء، حيث يرى العضو نفسه حارسًا للوحدة، بل حارسًا للإسلام، فى المقابل، يُنظر إلى المختلف بوصفه مفسدًا للوحدة، ثم مفسدًا للدين، وهكذا تنتقل الخصومة من أرض السياسة والفكر إلى أرض العقيدة والهوية، حيث يصبح الإقصاء أسهل والعنف أقرب.
3- احتكار النور
«التصور الصحيح.. نطرحه نحن»
يقول حسن البنا فى رسالة «إلى أى شيء ندعو الناس» :»إن الناس اليوم قد انحرفوا عن هذا التصور الصحيح للإسلام، فصاروا فرقاً وشيعاً كل فرقة تظن أنها على الحق، وإنما الحق فى اتباع المنهج الإسلامى الصحيح الذى نطرحه نحن، ومن خرج عنه فقد ضل سواء السبيل» فى هذا النص تتجمع مفردات تُغيّر طبيعة العلاقة بالمجتمع، «الانحراف» يُطلق على الناس على المشاع، و«التصور الصحيح» يُقدَّم كأنه حصرى للجماعة، ثم تأتى القبضة الحديدية المتعمدة: «الحق ليس ساحة اجتهاد عام، بل «منهج صحيح» تقدمه الجماعة بوصفه المعيار والبوصلة، ثم يُلقى حكم «الضلال» على الخارج عنها، وبمجرد أن يستقر هذا فى الوعي، لا يعود المجتمع شريكًا فى البحث عن الحق، بل حشدًا «انحرف» ويحتاج إلى تصحيح ، هكذا يولد شعور الطليعة الإخوانية.. أنت وحدك تحمل النور، والآخرون فى ضلال مبى !!!
.. هنا يُصاغ الاستعلاء بوصفه تقوي، لا بوصفه غرورًا.. فالعضو لا يقول «أنا أفضل»، بل يقول «أنا على التصور الصحيح الشامل»!!
وهنا الخطر.. لأن من يملك «الصحيح» يسهل عليه أن يرى المخالف «ضالًا»، وأن يمضى خطوة بعد خطوة نحو إخراجه من دائرة الحق، ثم نحو إخراجه من دائرة الاحترام، ثم من دائرة الحياة!!
4- الفرقة الناجية بالوكالة
عندما تُعرِّف جماعةٌ «التصور الصحيح» وتجعله خاصًا بها، يصبح الناس خارجها درجاتٍ من النقص، لا تعود المخالفة تنوعًا فى الاجتهاد – كفقه الأئمة الأربعة على سبيل المثال – بل علامة نقص فى الهداية، ومع جملة «ومن خرج عنه فقد ضَلَّ» يتحول الخلاف إلى صراع أخلاقي: أنت لا تخطئ فى رأي، بل تضل عن سواء السبيل!!، ومن هنا يُختزل التاريخ الإسلامى الواسع – بمدارسه واجتهاداته -إلى طريق واحد تُمسكه الجماعة وحدها، كأنها وكيلة على النجاة، وهذا هو المنطق الذى يزرع «الفرقة الناجية التنظيمية» حتى لو لم يُعلنها الشعار؛ فالنتيجة تكاد تنطق فى السلوك الإخواني.
5- دواء الحديد
الأمة جسدٌ يُقهر ثم يُبتر ، وفى خطاب تعبوى صريح يقول مدرس الخط حسن البنا: «استعدوا يا جنود.. خذوا هذه الأمة برفق وصفوا لها الدواء، فإذا أبت أوثقوا يديها بالقيود، وأثقلوا ظهرها بالحديد، وجرعوها الدواء بالقوة، وإن وجدتم فى جسمها عضوا خبيثا فاقطعوه!! استعدوا يا جنود فكثير من أبناء هذه الأمة فى آذانهم وَقْرٌ وفى عيونهم عَمَي!!».
هنا تنتقل اللغة من التوجيه إلى البرمجة العقلية.
أولًا: «جنود»: ليست كلمة عابرة؛ إنها تضع الأتباع فى مقام عسكري، كما تضع الأمة فى مقام الهدف !!
ثانيا: الأمة «تؤخذ» ويُوصف لها «الدواء»؛ فإذا رفضت، فالقيد والحديد. ثالثا: «جرعوها بالقوة».
وأخيرًا: أى «عضو خبيث» يُقطع.
فى هذه السطور، تُستبدل الهداية بآلية سيطرة، إقناع إن قبلوا، وإكراه إن رفضوا، وبتر إن قاوموا !!، ولأنها صيغت بلباس طبي، فقد كُسيت القسوة برداء رحمة زائف؛ فالقيود «دواء»، والحديد «علاج»، والبتر «ضرورة» للإنقاذ، وهنا تقع النقلة الأخطر، الإنسان لا يعود إنسانًا كامل الحقوق، بل جزءًا من جسد يمكن استئصاله !!
وما أن تُزرع هذه الصورة فى الوعى الإخوانى حتى يصبح العنف قابلًا للتسويغ، لأنك لا تعتدى على إنسان، بل «تقطع عضوًا خبيثًا» لحماية الجسد، وهذا هو جوهر بذرة العنف المتأسلم، نزع الإنسانية المعنوية قبل نزع الحياة، فحين تُنزَع الصفة الإنسانية عن الخصم، يصبح قتله إجراءً، لا جريمة!!
6- حبكة الإقصاء
إذا جمعتَ المفردات الثلاث: «واجب الطاعة»، و«المنهج الصحيح الذى نطرحه نحن»، و«العضو الخبيث فاقطعوه»، ستجد سلّمًا كاملاً وحبكة تراجيدية للإقصاء الممنهج.
البداية: إلزام دينى بالطاعة العمياء
الوسط: احتكار للحق وتعريف للضلال
النهاية: ترخيص للإكراه ثم للاستئصال
وبين هذه الدرجات يتشكل عقل يرى العالم من نافذة واحدة، الجماعة معيار الوحدة، ومعيار الحق، ومعيار العلاج، ومن لا يطابق المعيار يصبح بالتدريج، متمردًا، ثم ضالًا، ثم مرضًا فى جسد الأمة!!
هكذا يُصنع الاستعلاء، لا بوصفه نزوة، بل بوصفه وظيفة، العضو الإخوانى يقتنع أنه مأمور بإنقاذ الأمة، مخوّل بتقويمها، صاحب حق فى قسرها إن امتنعت، ثم فى بترها إن «خَبُث» فيها شيء من وجهة نظر الجماعة!!
إنه استعلاء باسم فهمهم الحصرى للدين!!
7 – الحد الذى وضعته النبوة
«أفلا شققت عن قلبه؟»
فى السيرة النبوية سؤالٌ واحد، لكنه كافٍ لهدم كل محاكم التفتيش الإخوانية قبل أن تُولد: «أفلا شققتَ عن قلبه؟» بهذا السؤال وُضع حدٌّ نهائى بين ما يملكه البشر وما لا يملكونه.
القلوب ليست ميدانًا للأحكام، والسرائر ليست مادة تصنيف، والإيمان – فى جوهره – علاقة بين العبد وربه، لا توزّعها جماعة ولا تصادرها تنظيمات، أما الظاهر، فهو وحده مجال التعامل فى الدنيا، به تُصان الجماعة الإنسانية من الانزلاق إلى الوصاية والتأثيم.
غير أن هذا الحد بدأ يتآكل حين أُدخل إلى الوعى قاموسٌ إخوانى جديد، لا ينظر إلى الناس باعتبارهم أصحاب آراء ومواقف، بل باعتبارهم حالات قلبية تُقيَّم وتُرتَّب.
تقسيمٌ صاغه حسن البنا بوضوح: مؤمن، ومتردد، ومحب، ومتحامل. تقسيمٌ لا يقف عند حدود السلوك الظاهر، بل يمدّ يده إلى الداخل؛ فيمنح صفة «المؤمن» لمن وافق وانخرط فى جماعته، ويضع «المتردد» فى منطقة نقص مؤقت، ويُبقى «المحب» فى دائرة ريبة لاتكتمل فيها الثقة، ثم يختزل المعارض للجماعة فى خانة «المتحامل» الذى تُفسَّر مواقفه باعتبارها خللًا فى الإيمان لا اختلافًا فى الرأي!!
بهذا التقسيم، لم يعد الخلاف خلافًا، بل صار قرينة على الباطن، ولم يعد السؤال بحثًا مشروعًا عن الصواب، بل علامة ضعف إيمان أو سوء قصد، ومع الوقت، يتدرّب العقل التنظيمى على قراءة القلوب دون أن يشعر، ويعتاد الحكم على الناس بميزان داخلى لا يملكه بشر. .وحين تُضاف إلى ذلك العبارات التى تربط الخروج على الجماعة بقطع الصلة بالإسلام، وتحتكر «التصور الصحيح والفهم الشامل»، وتصف المخالفين بأن فى آذانهم وقرًا وفى عيونهم عمي، يصبح المشهد كاملًا، فلم يعد الدين ميزانًا للعدل والرحمة، بل أداة فرز، ولم تعد الدعوة خطاب هداية، بل جهاز تصنيف وتفتيش فى النوايا، ومن هنا تحديدًا يصبح الانتقال من التقسيم إلى الإقصاء انتقالًا طبيعيًا لا قفزة مفاجئة.
فحين يُربَّى العضو الإخوانى على أن المجتمع درجات، وأن بعض هذه الدرجات مشوبة بالتحامل، وأن «الدواء» قد يُفرض بالقوة، وأن «العضو الخبيث» يجوز بتره، فإن ظهور النظام الخاص لا يبدو انحرافًا عن المنهج، بل تجسيدًا عمليًا له !!، فالعنف هنا لا يهبط من فراغ، ولايولد من لحظة غضب، بل يخرج من رحم لغةٍ سبقت السلاح، ومن تقسيمٍ مهّد للاستئصال قبل أن يُمارس.
وهكذا نعود إلى السؤال النبوى الأول، لا بوصفه موعظة أخلاقية، بل بوصفه حدًا فاصلًا بين دينٍ يصون الإنسان من محاكمة النوايا، ومنهجٍ أعاد فتح هذا الباب تحت لافتات الطاعة والوحدة والتصور الصحيح والفهم الشامل للإسلام!!
ومن اعتاد اقتحام القلوب، لن يستغرب يومًا أن تُستباح الأجساد، فالطريق من القلب إلى الجسد أقصر مما يظن المتطرف، ما دام الضمير قد خُدِّر باسم الطاعة العمياء!!!
8- سيد قطب
حين وجد البيتُ الملعون ساكنَه
الإنصاف الفكرى لا يبرئ سيد قطب من غلوه وتطرقه فهو المنظر للتكفير والدم، لكن لا يمكن اختزال الجذر الشيطانى فيه لان فكر الارهاب، «قطب» لم يدخل إلى تنظيمٍ محايد ثم لوّنه بلونه؛ بل دخل إلى بيتٍ ملعون شُيّدت جدرانه سلفًا.
جدارٌ يقول للعضو: أنت «وحدة الأمة» ما دمت مطيعًا، وإن خرجت قطعت صلتك بالإسلام.
وجدارٌ آخر يقول: الحق فى «منهج صحيح» تحمله الجماعة وتقدمه للناس، ومن خرج عنه ضل.
ثم جدار ثالث يصف الأمة جسدًا يمكن أن يُقهر إن أبي، ويُبتر منه العضو الرافض لفكرة الإخوان.
فى هذا البيت، يصبح التطرف والإرهاب أشبه بسقفٍ يرتفع فوق جدران قائمة بالفعل، لا أساسًا جديدًا !!
ولهذا، حين جاءت لغة قطب الأشد حدّة، لم تُستقبل داخل الجماعة بوصفها غريبة تمامًا؛ لقد وجدت مفاتيح نفسية جاهزة، وطليعة إخوانية مهيأة، بالإحساس أن المجتمع «يحتاج علاجًا»، والميل إلى تفسير الخصومة السياسية تفسيرًا دينيًا، والاستعداد لتكفير الرافض لفكر الجماعة، نعم، قطب قدّم للوجدان الإخوانى الذى صاغه المؤسس الشيطانى مفردات أشد وضوحًا، وأسلوبًا أكثر صدامًا، لكنه لم يكن أول من نقل الخلاف من السياسة إلى العقيدة؛ هذه النقلة كانت قد حدثت عندما قيل إن الخروج تمرد يقطع الصلة بالإسلام!!
ومن زاوية أخري، فإن النصوص الثلاثة للبنا تفسر كيف ينتقل الفكر من «الدعوة» إلى «التنظيم الخاص» دون أن يشعر أصحابه بتناقض: إذا كان الخارج يقطع صلته بالإسلام، وإذا كان الحق محصورًا فى منهجنا، وإذا كان فى الجسد عضو خبيث، فالقوة لا تعود فى المخيال انحرافًا، بل «مهمة» مقدسة لحماية وحدة الأمة وإنقاذها كما تصور الأوهام الإخوانية!!
9- من الفرز إلى الكسر
القاموس الإخوانى لا يبقى حبيس الأوراق، وحين يشيع، يبدأ بتبديل العلاقات اليومية بين البشر، وهكذا تُسحب الإنسانية من الخصومة تدريجيًا، وتتغير مفردات الخطاب، فيصير المختلف «متمردًا»، وتصبح الدولة «عائقًا» لأنها لا تسلم القيادة لمنهج الجماعة، وتصبح الوطنية موضع ريبة لأنها «تجزئ الأمة»، ويصبح المجتمع – فى صورته الطبيعية – حالة انحراف جماعى تحتاج إلى -دواء- أو بتر إذا استعصى الدواء!!
ومتى استقر هذا، تتغير التربية داخل البيوت والدوائر الإخوانية، فيُكافأ الولاء قبل الكفاءة، وتُقدَّم الطاعة قبل المعرفة، وتُعامل الأسئلة بوصفها ثغرات، ويُنظر إلى النقد بوصفه فتنة، أو كفرا، هنا ينشأ جيلٌ يقرأ الناس بعين الاشتباه، ويقيس التقوى بمدى الانضباط التنظيمي.
وهذا تحديدًا ما يجعل التكفير قابلًا للتجدد دائما، لأنه ليس قرارًا لحظيًا، بل وجهة نظر مؤسس الجماعة!!
10 – التكفير الصامت
كيف يُقال ما لا يُقال
أشد ما فى هذا البناء أنه لا يحتاج إلى إعلان مباشر، فحين تُربط الطاعة بالإسلام، يصبح العاصى خارجًا دون أن تُرفع لافتة «كفر»، وحين يُحتكر «الفهم الصحيح»، يصبح المختلف منحرفًا دون أن تُكتب عليه كلمة «مرتد»، وحين يُشبَّه المجتمع بالجسد ويُقال «عضو خبيث»، تُسحب الكرامة من الإنسان دون أن تُذكر كلمة «استباحة»، وهكذا ينجز الخطاب غايته بقناع هادئ، يعزل الآخر معنويًا أولًا، ثم يبرر القسوة عليه ثانيًا، ثم يجعل إقصاءه يبدو جزءًا من الدفاع عن الدين !!، ولأن هذا التكفير صامت، فهو أوسع انتشارًا وأطول عمرًا.
إذ يستطيع أن يعيش فى أحاديث البيوت، وفى اجتماعات الأسر والشُعب والمعسكرات الإخوانية، وفى لغة السياسة اليومية: «أنت تهدم وحدة الأمة»، «أنت ضد الإسلام»، «أنت تعطل المنهج الصحيح»، ومع تكرارها تتحول العبارة إلى شعور عام، والشعور إلى عادة، والعادة إلى معيار، وحين يصير المعيار هو الولاء لا الحقيقة، يصبح الإنسان قابلاً لأن يساوى بين خصمه وبين الخطر الوجودي. .ومن هنا تتغير بنية الحوار فى المجتمع ويُستبدل الإقناع بالتصنيف، ويُستبدل البرهان بالمفاصلة، ويُستبدل الاختلاف بالتكفير!!
11- قطب مرة أخرى
لماذا بدا الغلو مقبولًا؟
حين نعيد النظر، نرى أن قطب لم يحتج إلى إقناع أتباعه بأن المجتمع خصم؛ كانت العبارات المؤسسة قد قدمت لهم مفاتيح رؤية المجتمع ككيانٍ «انحرف عن التصور الصحيح» ويحتاج إلى «دواء»، وأن مقاومة هذا الدواء تعنى تمردًا على الوحدة، ثم قطيعة مع الإسلام.
لذلك بدت لهجة قطب لدى كثيرين ليست تغييرًا على روح الجماعة، بل تشديدًا على ما ظنوه أصلًا !!
إنه الفرق بين من يرسم الخريطة ومن يسمى الطريق.
الخريطة كانت مكتملة فى تصور المؤسس مدرس الخط، وقطب وضع عليها لافتات أكثر حدّة، فقرأها الأتباع وكأنهم يعرفونها منذ زمن!!
ومن أجل ذلك، فإن التكفير فى التجربة الإخوانية ليس حادثًا طارئًا يجيء من شخصٍ متشدد ثم يرحل؛ إنه قابل للتجدد لأنه تأسس على قاموس حسن البنا.
والقاموس – حين يُزرع فى العقول – يصير أقوى من الأشخاص. .ومن يزرع مفردة «قطع الصلة بالإسلام» فى خلاف تنظيمي، يزرع قابلية التكفير. .ومن يزرع «المنهج الصحيح الذى نطرحه نحن» يزرع قابلية الاستعلاء. ومن يزرع «العضو الخبيث فاقطعوه» يزرع قابلية العنف.
ولهذا، وبالمعنى الدقيق للكلمة، فإن حسن البنا هو مؤسس التكفير الإخواني، لأنه صنع المعايير التى تُخرج الناس من الإسلام بالنتيجة، وتُخرجهم من الحق بالاحتكار، ثم تُخرجهم من الإنسانية بالاستعارة.
ومن هنا نفهم لماذا تظل الفكرة الإخوانية قادرة على إنتاج قسوة جديدة وعنف وإرهاب مادى ومعنوي، لأن بذرتها الأولى كانت فى تعريف الدين على مقاس الجماعة، وهكذا لا نمسك بخيط التكفير عند نهايته الدموية، بل عند عقدته الأولى التى نفثها شيطان الجماعة ومؤسسها.









