فى اللحظات السياسية الفارقة، تصبح الحكمة عبئًا على أصحاب الأجندات، ويغدو العقل الهادئ هدفًا لمحاولات الابتزاز والاستقطاب.. فبدلاً من إدارة الخلاف بعقلانية، يُدفع المجتمع إلى ثنائيات حادة: إما معنا أو ضدنا، إما ديمقراطية كاملة أو فساد مطلق.. وفى هذا المناخ المأزوم، يصبح من الواجب التحذير من أخطر ما يمكن أن يُمارس فى السياسة: ابتزاز العقلاء.
>>>
وإذا ألقينا نظرة موضوعية على تاريخنا النيابي، سنجد أن الجدل حول نزاهة الانتخابات ليس استثناءً ولا وليد اللحظة.. فمنذ عصر الأسرة العلوية، حين كانت مصر ولاية عثمانية شبه مستقلة، مرورًا بمرحلة السلطنة ثم المملكة، ووصولاً إلى عهود الجمهوريات المتعاقبة، لم تجرِ انتخابات واحدة دون مخالفات أو خروقات، تفاوتت فى حجمها وتأثيرها.. كانت النتيجة دائمًا صورة منقسمة: فائز يحتفل، وخاسر يشكك ويغضب.
>>>
هذا المشهد لا يقتصر على التجربة المصرية، بل يتكرر فى أعرق الديمقراطيات فى العالم.. فالولايات المتحدة، بما تملكه من مؤسسات راسخة، شهدت انتخابات طُعنت فى نزاهتها، ورافقتها اتهامات واسعة بالتزوير والتلاعب.. وهو ما يؤكد حقيقة بسيطة لكنها مهمة: لا توجد انتخابات تشريعية فى العالم جرت دون شكاوى أو اتهامات، وإنما الفارق الحقيقى يكمن فى كيفية إدارة هذه الشكاوى والتعامل معها.
>>>
من هذا المنطلق، يمكن فهم الجدل الذى صاحب الانتخابات البرلمانية المصرية الجارية.. قد نتفق أو نختلف حول تفاصيل ما حدث، أو حول حجم الأخطاء وطبيعتها، أو مدى تأثيرها على إرادة الناخبين، لكن الثابت أن أخطاء وقعت بالفعل، وأن بعضها كان مؤثرًا ولا يجوز إنكاره أو التقليل منه.. غير أن الأهم من وقوع الخطأ هو طريقة التعامل معه.
>>>
فى هذه النقطة تحديدًا، جاء تدخل الدولة ممثلة فى رئيسها حاسمًا وفى توقيت بالغ الأهمية.. فبتغريدة واضحة لا تحتمل التأويل، وُضعت مؤسسات الدولة كافة أمام مسئولياتها، ثم تُرجم هذا الموقف إلى فيتو رئاسى غير مسبوق، أفضى إلى إلغاء الانتخابات فى نحو 70 ٪ من دوائر المرحلة الأولي.. كان ذلك قرارًا شجاعًا، أعاد تصويب مسار أعوجّ بالفعل، وأكد أن الاعتراف بالخطأ وتصحيحه هو جوهر الدولة القوية لا نقيضها.
>>>
ثم جاءت المرحلة الثانية من الانتخابات وقد جرى فيها تلافى معظم، وربما كل، الملاحظات التى أُثيرت سابقًا. وبذلك، يمكن القول إننا أمام مسار انتخابى جرى تصحيحه أثناء الحركة، لا بعد انتهائه، وهو أمر نادر فى تجارب سياسية كثيرة.. ورغم أن ولادة هذا البرلمان بدت متعثرة ومؤلمة، فإنها تمت وفق الأطر الدستورية والقانونية، وبما لا يترك – وفق آراء غالبية فقهاء القانون الدستورى – عوارًا قانونيًا أو دستوريًا جوهريًا.
>>>
وانطلاقًا من ذلك، أؤكد بوضوح أننى مع ضرورة استكمال العملية الانتخابية الحالية حتى نهايتها، والوصول إلى برلمان جديد لا يشوبه عوار دستورى أو قانوني.. فإلغاء المسار الانتخابى برمته بعد ما جرى من تدخل رئاسى وإجراءات تصحيحية واسعة، لا يمثل انتصارًا للديمقراطية، بل قد يفتح الباب أمام ارتباك سياسى وفوضى دستورية نحن فى غنى عنها.
>>>
ومن هذا المنظور، فإن الأصوات التى تطالب بإلغاء العملية الانتخابية بالكامل مدعوة لأن تتوقف قليلاً، وأن تُعمل العقل والحكمة، وأن تتأمل بهدوء فيما جرى بالفعل، لا فيما يُراد توظيفه سياسيًا.. فالأخطاء لم تُنكر، ولم تُغطَّ، بل جرى الاعتراف بها علنًا وتصويبها بقرارات واضحة، وهو ما يُحسب لا يُدان.
>>>
وفى المقابل، لا يمكن القبول بالخطاب المضاد الذى يهاجم هذه الأصوات بضراوة، ويصور المشهد الانتخابى على أنه «عرس ديمقراطى مكتمل»، متجاهلاً ما وقع من تجاوزات.. فهذا الخطاب يمارس ابتزازًا عكسيًا لا يقل خطورة، لأنه ينكر الواقع ويصادر حق النقد.. وهكذا نبدو وكأننا أمام مبارزة فى الابتزاز السياسي: ابتزاز باسم المعارضة، وآخر باسم الدفاع عن الدولة.
>>>
والحقيقة أن الدولة أبعد ما تكون عن هذا الاستقطاب الحاد.. فالدولة، فى جوهرها، لا تسعى إلا إلى انتخابات حرة ونزيهة تعكس إرادة المواطنين.. وطالما تحقق ذلك عبر تدخل رئاسى مسئول وإجراءات قضائية واضحة، فإن الطريق الأسلم هو استكمال المسار بنفس الروح الإصلاحية الجديدة.
>>>
المطلوب اليوم ليس هدم التجربة ولا تقديسها، بل البناء عليها.. وعلى البرلمان القادم أن يتحرك سريعًا لإعادة النظر فى قوانين الانتخابات، وتقسيم الدوائر، ونظام القائمة المغلقة، بما يضمن تمثيلاً أعدل وأكثر عدالة، ويجنب البلاد تكرار هذه المنغصات مستقبلاً.. فالديمقراطية ليست حدثًا عابرًا، بل مسارًا طويلاً، ولا يُحمى هذا المسار إلا بالعقل.. وإياك وابتزاز العقلاء.









