“1866” أول طابع بريد مصرى له هوية وطنية
طابع البريد ليس مجرد قصاصة ورقية ملونة، لكنه وثيقة تاريخية، ووسيلة دفع مسبق لنقل الرسائل.. لكن كيف كانت الرسائل تصل قبل اختراع الطابع؟ وكيف تحولت مصر من الزخارف العثمانية إلى صور الأهرامات، ثم وجوه الملوك على رسائلها للعالم؟.. تاريخ كامل يمكن قراءته من خلال طابع بريدى واحد، لوحة صغيرة تحمل بين ألوانها حكايات الملوك والرؤساء، ومسارات المراسلات، وتطور المجتمعات عبر الزمن، عالم الطوابع ليس مجرد هواية، بل أرشيف حى يوثق ذاكرة الشعوب، ويكشف مسارات البريد منذ بداياته وحتى العصر الحديث.
مصر تمتلك أحد أعرق الأنظمة البريدية فى المنطقة، يمتد منذ عهد الخديوى إسماعيل، مرورًا بفترة الملك فاروق الذى كان عضوا بجمعية هواة الطوابع.. المهندس هانى سلام، رئيس مجلس إدارة الجمعية المصرية لهواة الطوابع، والتى تأسست عام 1929 وتعد من أعرق الجمعيات فى العالم.. وتحمل الجمعية على عاتقها مهمة حفظ التراث البريدى المصري، وتوثيق الإصدارات التاريخية، ودراسة الجوانب الفنية للطوابع من ألوان وتصميم وقيم واستخدامات.. حاورناه لنعرف تاريخ أول طابع وأول رسالة بريدية، ونستعرض الاتفاقيات الدولية المنظمة لتعريفات الطوابع، ونقترب من قصة البريد المصرى عبر العصور، وتسليط الضوء على الفئات البريدية المختلفة وأوجه استخدامها داخليًا وخارجيًا، والمعارض والجوائز وأحدث الأنشطة التى تنفذها الجمعية اليوم.
حدثنا عن الجمعية المصرية لهواة الطوابع ومتى يعود تاريخ تأسيسها؟
الجمعية المصرية لهواة الطوابع واحدة من أعرق الجمعيات الأهلية المتخصصة فى المنطقة، تأسست بهدف نشر وتوثيق هواية جمع الطوابع فى مصر، والحفاظ على تاريخ البريد المصري، وتعمل بالتعاون مع الهيئات المحلية والدولية على تنمية الهواية لدى الشباب، وترسيخ الوعى بقيمتها الثقافية والتاريخية، وقد تأسست الجمعية برئاسة جورج الخياط، ويعد إبراهيم بك شاطر من أبرز من تولوا رئاستها عبر تاريخها، بينما استقر مقرها فى وسط البلد منذ عام 1945 ولا يزال قائما حتى اليوم، ويضم نحو 250 عضوا من الهواة والباحثين والمهتمين بالتراث البريدى.
متى أصدرت مصر أول طابع بريدى وما رمزيته الوطنية؟
صدرت أول مجموعة طوابع مصرية فى 2 يناير 1866، مطبوعة فى جنوة بإيطاليا، وكانت تحمل نقوشا عثمانية وفئات نقدية باللغة التركية «بارة وغروش»، حيث كانت مصر تابعة للدولة العثمانية آنذاك، لكن التحول الأبرز جاء سريعا فى 1867، عندما بدأت مصر طباعة طوابعها محليا فى الإسكندرية بمطبعة «بيناسون»، فتخلت الطوابع عن الزخارف العثمانية لتظهر هوية مصرية خالصة، بصور الأهرامات وأبو الهول، إلى جانب مسلة وعمود روماني، فى رسالة واضحة للعالم «هذه مصر»، ومنذ ذلك الحين، أصبح الرمز الفرعونى علامة ثابتة على الطوابع المصرية حتى الحرب العالمية الأولي، ليؤكد أن البريد ليس مجرد وسيلة مراسلة، بل منصة لتأكيد السيادة والهوية الوطنية.
ما أكثر الحكايات طرافة فى تاريخ هواية الملوك المصريين؟
دهاليز التاريخ البريدى المصرى به قصة طابع بريد نادر، بسبب تحدى أحد رعايا الملك ليس فى السياسة، بل فى شغف اقتناء طابع بريدى نادر يعرف باسم «البايسكت»، وهو طابع مقسوم نصفين، لم يصدر منه سوى نسختين فقط فى العالم، واحدة فى مجموعة ملكة بريطانيا، والأخرى كانت محور صراع بين الملك فاروق، و«إبراهيم بك شفطر»، الرئيس رقم 3 للجمعية المصرية لهواة الطوابع آنذاك، والملك فاروق كان شغوفا بجمع الطوابع، وورث مجموعة ضخمة من والده الملك فؤاد، وقرر امتلاك هذا الطابع بأى ثمن، وكلف التاجر الأرمنى «هاجوبيان» السفر إلى لندن لشرائه، لكن «شفطر» خدع «هاجوبيان»، زاعما أنه يرغب فى إهدائه شخصيا للملك للحصول على رتبة الباشوية، فانسحب «هاجوبيان»، وعندما عاد «شفطر» إلى مصر أخبر الملك فاروق أنه أرسل الطابع عبر البريد العادي، بينما كان يملكه فعليا، وهكذا، لم يحصل الملك على الطابع، ولم يحصل «شفطر» على الباشوية، بل نال عقاب إدارى قاسي، حيث تم نقله من منصبه المرموق فى الإسكندرية إلى مصانع السكر فى «نجع حمادي»، ليقضى فترة «نفي» وظيفى فى الصعيد بسبب طابع بريد.
لماذا ظهرت صورة الملك فؤاد على الطوابع البريدية المصرية وسر الخطوط السوداء على وجهه؟
أراد الملك فؤاد الأول أن يرسخ سيادة الدولة بشكل واضح، وقرر وضع صورته على طوابع البريد، فى خطوة كانت سابقة غير مألوفة فى الدول الإسلامية آنذاك، نظرا للمحاذير الدينية المتعلقة بتصوير الأشخاص رغم الجدل، وأصر الملك فؤاد على موقفه معتبرا صورته رمزا للدولة الملكية المستقلة، وتخلت مصر عن الطباعة السطحية التقليدية واعتمدت تقنية حديثة، بالتعاون مع شركة «هاريسون آندصنز» الإنجليزية التى اضطرت لتعلم التقنية خصيصا لتلبية متطلبات الطوابع المصرية، وصدرت الطوابع بجودة فوتوغرافية مذهلة، لتتحول من مجرد وسيلة دفع بريدية إلى لوحة فنية تجسد قوة الدولة وهيبة ملكها، وتكتب فصلا جديدا فى تاريخ البريد المصري، أما واقعه الخطوط على وجه الملك جاء بعد ثورة يوليو وانتهاء الملكية وبداية الجمهورية حيث تم تداول الطوابع القديمة مشطوب عليها بثلاث خطوط سوداء عريضة دون تغييره.
كيف يتم تحديد فئات الطوابع البريدية ومعايير تقييمها؟
يقوم الاتحاد البريدى العالمى فى جنيف بتحديد التعريفة الموحدة للوزن الأول للرسائل محليا وخارجيا على الصعيد الدولي، كما يضع المعايير الفنية للطوابع، بما فى ذلك اختيار الألوان، لتسهيل عمل رجال البريد، وألوان الطوابع لم تكن عشوائية، فتم تخصيص اللون الأزرق للمراسلات الخارجية، والبنى للمراسلات الداخلية، بهدف تمكين سعاة البريد الذين كان بعضهم لا يجيد القراءة والكتابة فى ذلك الوقت من فرز الرسائل بسرعة وكفاءة، وتعكس هذه الإجراءات تطورا مبكرا فى النظم اللوجستية للبريد، حيث جمع بين التنظيم الفنى والدقة التشغيلية لضمان وصول الرسائل بسلاسة.
ماذا عن الطوابع التذكارية المصرية ومتى صدرت أولها؟
فى مصرصدرت أول محاولة للطابع التذكارى عام 1925 بمناسبة عيد وفاء النيل، حاملة صورة الملكة كليوبترا، لكنها لم تعتمد رسميا، أما أول طابع تذكارى مصرى حقيقي، فكان لمعبود الحكمة «توت» عند الفراعنة، بمناسبة المؤتمر الخمسينى للجمعية الجغرافية المصرية، ومنذ ذلك الحين توالت إصدارات الطوابع التذكارية المصرية، لتشمل مناسبات مثل اتفاقية 1936، وزواج الملك فاروق والملكة فريدة، وتكريم رموز الفن والثقافة مثل أم كلثوم وفاتن حمامة، لتصبح كل طابع لوحة صغيرة توثق لحظة من تاريخ مصر.
ما الأنشطة التى تؤديها الجمعية للحفاظ على تاريخ الطوابع والبريد المصرى؟
تعتبر الجمعية المصرية لهواة الطوابع «ذاكرة البريد المصري» حيث نقوم بإصدار مجلة دورية منذ عام 1929، بمعدل أربعة أعداد سنويا، وتعد المجلة مرجعا توثيقيا شاملا لكل ما يتعلق بالبريد المصرى من الاتفاقيات الدولية وتطور الخدمات وتغيرات التعريفة وصولا إلى أشكال الأختام المستخدمة فى كل قرية ومدينة، هذا التوثيق الدقيق لا يوجد له مثيل حتى فى بعض الأرشيفات الرسمية، وإضافة إلى ذلك، تعمل الجمعية على الحفاظ على هواية جمع الطوابع وتنميتها من خلال إقامة معرضين سنويين بالتعاون مع البريد المصرى ووزارة الاتصالات، الأول فى أبريل والثانى فى سبتمبر، كما تشارك الجمعية فى المعارض الدولية، حيث حصل بعض عارضينا على ميداليات ذهبية تقديرا لندرة الطوابع وجودة العرض، ومن خلال هذه الأنشطة، تجمع الجمعية بين الحفاظ على التراث البريدى المصري، وتوثيق كل تفاصيله التاريخية والفنية، وتعزيز الهواية لدى الأجيال الجديدة، لتظل الطوابع المصرية أكثر من مجرد وسيلة بريدية، بل أرشيف حى لتاريخ الأمة.
ما هى أبرز المعارض التى نظمتها الجمعية وشاركت فيها محليا ودوليا؟
نظمت الجمعية المصرية لهواة الطوابع عددًا من المعارض المهمة بالتعاون مع هيئة البريد المصرى ووزارة الاتصالات، أبرزها هذا العام معرض متحف البريد، ومعرض قصر السلطانة ملك، إلى جانب معرض أُقيم داخل المتحف اليونانى الروماني، فى إطار إتاحة التراث البريدى للجمهور داخل مواقع ثقافية وتاريخية كبري، كما تشارك الجمعية بانتظام فى معارض دولية، آخرها فى لبنان حيث تمثل الطوابع المصرية فى محافل عالمية متخصصة.
كيف تحصلون على الطوابع النادرة؟
الطوابع النادرة قد تصل أسعارها إلى آلاف الدولارات، يتم تداولها عادة عبر مزادات عالمية كبري، خاصة فى دول مثل سويسرا وألمانيا، حيث تتركز أهم أسواق الطوابع فى العالم، وفى المقابل، تنظم الجمعية مزادات داخلية لأعضائها، بأسعار مناسبة، بهدف تشجيع الهواة ودعم حركة جمع الطوابع دون أعباء مالية كبيرة.
هل يمكن اعتبار جمع الطوابع هواية مربحة أو استثمار؟
جمع الطوابع لا يقتصر على كونه نشاطا ثقافيا أو ترفيهيا، بل يعد أحد أشكال الاستثمار الآمن، فالهواية تمتاز بأنها تحافظ على قيمتها بمرور الوقت، إذ يمكن للهواة بيع مجموعاتهم بعد سنوات من الاستمتاع بجمعها ودراستها، واسترداد قيمتها المادية، بل وتحقيق أرباح فى بعض الحالات، فمثلا الانفاق على هوايات أخرى تستهلك ادواتها دون مقابل، بينما تظل الطوابع محتفظة بقيمتها التاريخية والمادية، لتجمع بين المتعة والعائد.
ما أبرز التحديات التى تواجهكم فى الحفاظ على هواية جمع الطوابع؟
تعتمد هواية جمع الطوابع بشكل كامل تقريبا على الجهود الذاتية والتمويل الشخصي، وهو ما يفرض تحديات كبيرة أمام الحفاظ على هذا التراث العريق، ورغم وجود إقبال ملحوظ من بعض الشباب، يظل العائق المالى أحد أبرز التحديات، إذ تحتاج الهواية إلى دعاية مستمرة وأنشطة جذب ومعارض وكلها تتطلب تمويلا، فأعضاء مجلس الإدارة يتحملون من أموالهم الخاصة اشتراكات العضوية فى الاتحاد الدولى والاتحاد الأوروبى لهواة الطوابع والتى تصل إلى نحو 1450 يورو سنويا لضمان استمرار المشاركة المصرية فى المعارض الخارجية والتمثيل الدولي، ولان جمع الطوابع ليس نشاط ربحى بل شغف ثقافى يشبه هوايات السفر أو الغوص، ينفق فيه الهاوى سنوات من عمره وأمواله فى البحث والدراسة والتوثيق دون عائد مادى مباشر مقابل مكافآت معنوية تتمثل فى الحفاظ على ذاكرة الوطن، والحصول على ميداليات شرفية فى المحافل الدولية، وتزداد التحديات مع ارتفاع تكاليف إقامة المعارض حيث تتكلف وحدة العرض الواحدة آلاف الجنيهات، إلى جانب أزمة مقر الجمعية المهدد بالإخلاء بسبب قانون الإيجار القديم، وهو ما قد يضع مستقبل هذا الكيان التاريخى أمام تحد حقيقي، وسط آمال بتدخل الدولة لتوفير مقر يليق بتاريخ البريد المصرى العريق ويحفظ هذا التراث للأجيال القادمة.








