مع اقتراب نهاية كل عام، تتكرر الطقوس ذاتها، وتفيض الشاشات والهواتف ووسائل التواصل الاجتماعى بسيل لا ينقطع من التوقعات والتحليلات. خبراء اقتصاد يرسمون خرائط المستقبل، ومراكز أبحاث تضع سيناريوهات معقدة، ومحللون سياسيون يتحدثون بثقة عن ما سيحدث وكأنه قدر مكتوب. وعلى الجانب الآخر، نجد من يقرأ الطالع، ومن يفتح الأبراج، ومن يبيع الوهم فى شكل «رسائل كونية» أو «ذبذبات إيجابية» تعد الناس بالحب والمال والسعادة فى العام القادم.
>>>
المفارقة أن المتلقى الواحد قد يستهلك كل هذا التناقض دون حرج. يقرأ تقريرًا صادرًا عن مؤسسة بحثية كبري، ثم ينتقل بسلاسة إلى فيديو عن توقعات الأبراج، وقد يصدق الاثنين معًا، أو لا يصدق أيًا منهما، لكنه فى النهاية نادرًا ما يتوقف ليسأل نفسه: وماذا عنى أنا؟ ماذا أري؟ ماذا أريد؟ وكيف أستعد؟
>>>
هنا تكمن المشكلة الحقيقية، لا فى التوقعات نفسها، بل فى غياب التفكير الفردي. حين يتحول العقل الجمعى إلى مجرد مستقبل سلبى لما ينتجه الآخرون، يفقد الإنسان أهم أدواته: التأمل، والمراجعة، والقدرة على صياغة رؤية شخصية. يصبح العام الجديد حدثًا خارجيًا ينتظر ما سيحمله له، لا مساحة زمنية يمكنه أن يشكلها بوعيه واختياراته.
>>>
الحقيقة أن أى عام جديد لا يبدأ من نشرات الأخبار ولا من توقعات المنجمين، بل يبدأ من داخل كل فرد. يبدأ من سؤال بسيط لكنه مؤلم أحيانًا: كيف كنت قبل عام؟ وكيف أصبحت الآن؟ ماذا ربحت؟ ماذا خسرت؟ وما الذى تغير فى وعي، لا فى ظروفى فقط؟ هذه الأسئلة لا تظهر فى التقارير، ولا تجد لها مكانًا فى فقرات الأبراج، لكنها الأساس الحقيقى لأى قراءة صادقة للمستقبل.
>>>
الطموحات الشخصية، مهما بدت صغيرة أو متواضعة، هى وحدها المؤشر الواقعى لما يمكن أن يكون عليه العام القادم. شخص يسعى لتعلم مهارة جديدة، أو تحسين وضعه الصحي، أو إعادة ترتيب علاقاته، هو فى الحقيقة يرسم ملامح عامه القادم بالفعل، حتى وإن تجاهلته كل التحليلات الكبري. وعلى العكس، من ينتظر «أن تتحسن الأمور» دون أن يحدد ماذا تعنى هذه الجملة بالنسبة له، غالبًا ما يكرر الدوران فى المكان ذاته.
>>>
المبالغة فى التهويل خطر، كما أن التهوين خطر آخر. لاالعالم سينهار بالكامل مع أول يوم فى العام الجديد، ولاستنفتح أبواب الجنة فجأة. التاريخ يعلمنا أن التغيرات الكبرى هى نتيجة تراكمات بطيئة، وأن اللحظات الفارقة تأتى غالبًا بعد استعداد طويل، لا بعد أمنيات عابرة.
>>>
من هنا، ربما نحتاج تغيير زاوية النظر. بدل أن نسأل: ماذا يخبئ لنا العام الجديد؟ يمكن أن نسأل: ماذا سنخبئ نحن له؟ ما الذى سنضيفه إلى حياتنا؟ وما الذى سنقرر أخيرًا التخلى عنه؟ هذا التحول فى السؤال ينقل الإنسان من موقع المتفرج إلى موقع الفاعل.
>>>
الدعوة الحقيقية مع نهاية هذا العام ليست لقراءة المزيد من التوقعات، بل لأخذ لحظة صمت. لحظة تفكير صادق، بلا ضجيج، بلا شعارات، وبلا أوهام. لحظة يعيد فيها كل شخص ترتيب علاقته بالزمن، ويفهم أن المستقبل ليس لغزًا ننتظر حله، بل نتيجة نصنعها، خطوة صغيرة بعد خطوة.









