كلما تحدثت عن اللغة العربية شعرت أننى لا أوفيها حقها، كتبت عنها من قبل تحت عنوان «غيرة على لغتى الأم»، وسأظل أعود إليها، لأنها ليست مجرد حروف تُنطق، بل روح تسكننا، كلمات تمتد بجذورها فى عمق التاريخ، فهى تحمل فى طياتها قيم غنية، تقوم على الدقة والمرونة فى التعبير، والعمق فى المعنى وقد كانت عبر القرون بها كتبت العلوم، وصيغت الفلسفات، وتجلّى الأدب، ومنها عبرت المعارف الإنسانية إلى حضارات شتي، ولم تكن يوماً لغة علم فقط، بل لغة قيم، حملت العدل، ودعت إلى التسامح، وفتحت أبواب الحوار بين البشر، ويظل القرآن الكريم شاهداً خالداً على مكانتها، ودليلاً لا يبهت على قدرتها الفريدة على احتواء المعنى والروح معًا.. وفى يومنا هذا الموافق 18 ديسمبر، لا نحتفى بلغة عادية، بل نحتفى بواحدة من أعرق لغات العالم وأكثرها تأثيراً، نحتفى بلغةٍ لم تكن يوماً وسيلة للتواصل فقط، بل كانت وعاء للهوية، ومرآة للتاريخ، وجسراً ثقافياً الشعوب نحو الفهم المشترك لشعوب.
ورغم عراقتها تقف اليوم أمام تحديات جسيمة، فى ظل التطور التكنولوجى المتسارع الذى تتبدل فيه أنماط المعرفة والتواصل، قد تهدد حضورها فى التعليم والإعلام والبحث العلمي، ومن هنا، يصبح الحفاظ عليها فعلاً وعى ومسئولية، لا مجرد تعود واستمرارية، فحمايتها تبدأ من إيماننا بها، ومن إصرارنا على استخدامها فى تفاصيل حياتنا، ومن تشجيع أبنائنا على تعلمها لا بوصفها مادة دراسية، بل باعتبارها هوية تستحق كامل التقدير والاحترام والفخر بها، ويتجسد ذلك فى دعم تعليمها لغير الناطقين بها، وإحياء حركة الترجمة منها وإليها، وتوظيف التقنيات الرقمية لخدمة محتواها، وتفعيل دورٍ الإعلام والمؤسسات الثقافية بشكل أوسع يعيد إليها حضورها وجمالها، وكل هذا ليس بقدر أهمية الدفاع عنها لأنها تمثل الهوية الثقافية، وصون للتراث، وضمان لاستمرار المعني، كما ان الاهتمام بها ونشرها عالمياً لم يعد خياراً، بل واجب وطنى وإنسانى على كل عربي.
ويأتى اليوم العالمى للغة العربية كل عام ليؤكد لنا حقيقة ثابتة، وهى أن هذه اللغة مازالت حية وقادرة على التجدد، وعلى مواكبة العصر، بتوافر دعمها والإيمان بها والتمسك بقيمها والتواصل بها هى فقط مع الشعوب الأخرى، فهى ليست إرثاً نضعه على الرفوف، بل بذرة مستقبل، ورسالة حضارية تستحق الاستمرارية بالنطق والكتابة لتصل إلى العالم كله.








