واحد من أهم وأجمل الحوارات التى اجريتها واعتز بها فى بداية حياتى الصحفية.. حوار مع احد الأطفال من نوابغ ونجوم دولة التلاوة.. طفل كفيف نحيف الجسم لا تفارقه ابتسامة تنير وجهه المزين بمسحة سمار اسوانى محببة.. لم يتجاوز السابعة من عمره فى الصف الثانى الابتدائى الأزهرى بأسوان..
حكايته حكاية يجب أن تحكي.. كان حافظاً للقرآن الكريم وعشرات الآلاف من الأحاديث النبوية والنصوص وبعض كتب المتون.. يتمتع بذاكرة تسجيلية مبهرة.. هو واحد من نتاج عمليات البحث عن المواهب فى ربوع مصر كان ينتهجها الدكتور محمد على محجوب رحمه الله.. وكان واحداً من أنشط وزراء الأوقاف وأكثرهم حركة وشعبية.. فقد جمع بين العلم الشرعى أستاذا للشريعة الإسلامية بحقوق عين شمس وفى أكاديمية الشرطة حتى وفاته فى 18 يوليو 2024 وبين عضويته فى الحزب الوطنى الديموقراطى إذ كان النائب الأشهر الذى لا ينافس فى دائرة حلوان..
كان د. محجوب حريصاً ودائم البحث لاكتشاف النوابغ من كل المحافظات خاصة فى القرآن الكريم وما يمكن أن نسميهم معجزات فى هذا العالم الساحر المدهش والمحبب وكان يقدمهم للرئيس فى احتفال مصر بليلة القدر كل عام.. كان الطفل الاسوانى احد هؤلاء النجوم فى واحدة من تلك الاحتفالات.
حدث بعد التكريم أن جاء الطفل وبصحبة خاله إلى مقر الجمهورية القديم استضافهم زميلنا الاسوانى الأستاذ محمد المختار رحمه الله وكان واحداً من أشهر المحررين البرلمانيين حينذاك.. أجريت معه حواراً مطولاً وما يشبه الاختبار لقدراته وملكاته كان رائعا ومبهرا يتمتع بذاكرة تسجيلية فائقة يحفظ من أول مرة وكان جهاز الكاسيت وإذاعة القرآن الكريم وقراء مصر الكبار هم أبطال السباق والتنافس..
بعد نشر الحوار فى «الجمهورية» وتحقيق استقصائى فى جريدة المسلمون الدولية بعنوان: الطفل الفقيه.. تحرك الأزهر الشريف ورابطة العالم الإسلامى التى تدخلت بقوة وعرضت استضافة وتبنى الطفل وأسرته فى السعودية وأن تتكفل بتعليمه حتى نهاية المرحلة الجامعية.. وقدمت دعوة للطفل وأسرته للعمرة ولاجراء الاختبارات اللازمة من كبار المتخصصين من علماء الدين والتربية للتأكد من ملكات وقدرات الطفل الحقيقية.. وانتهى تقرير اللجنة السعودية إلى أن العمر العقلى للطفل يفوق طلبة الجامعة.
تدخل فضيلة الإمام الأكبر الشيخ جاد الحق على جاد الحق شيخ الأزهر وأعلن أن الازهر سيتكفل بتعليمه مجاناً حتى ينتهى من الجامعة وسيوفر له كل ما يحتاجه علميا واجتماعيا..
علم العاهل السعودى الملك فهد رحمه الله بالحكاية فقرر تخصيص وقفية قيمتها 480 ألف ريال سعودى من ماله الخاص للانفاق على تعليم الطفل المعجزة وتوفير حياة كريمة له واهداه مجموعات متكاملة من الكتب الإسلامية والمكتبات السمعية وغيرها تيسيرا له فى طلب العلم..
فى تلك الأثناء توصلت لجنة علمية بالازهر لدراسة حالة الطفل برئاسة الاستاذ الدكتور إسماعيل الدفتار رحمه الله إلى أن العمر العقلى للطفل يعادل طلبة الجامعة ولكن نظرا لبعض أمور تتعلق ببناء شخصية الطفل وحرصا على تطورها دون صدمات وحتى يعيش مراحل الطفولة والشباب قررت اللجنة إلحاقه بالصف الثالث الاعدادي.. وحدث بالفعل.. والتحق بالجامعة بكلية أصول الدين وحقق تفوقا ملحوظا وعين معيداً بها ويعمل الآن أستاذاً بالجامعة..
اسرد هذه القصة هامساً فى اذن فضيلة الدكتور أسامة الازهرى وزير الأوقاف وهو يدعم بكل قوة المواهب القرآنية ويشارك بفاعلية مشجعا ومحفزا فى مراحل التسابق بضرورة اتخاذ خطوات عملية تجاه مستقبل هؤلاء النوابغ وتأمين حياة علمية مناسبة للمستحقين تتماشى وتتوافق وقدراتهم العقلية والذهنية للدفع بهم إلى الأمام وحتى لانتركهم للضياع فى مراحل لا تقدم لهم أى فائدة أو جديد إن لم تأكل من رصيدهم الحى أو تحبطهم أو تجذبهم إلى الخلف بعد دفعات معنوية أو مادية قوية فالاستمرار وسياسة النفس الطويل هى المطلوبة والمرغوبة.
لماذا لا نفكر فى أكاديمية خاصة بالنوابغ وأصحاب المهارات الخاصة تتبناهم ترعاهم وتتولى شئونهم العامة والخاصة تضعهم دائما تحت مظلة خاصة من الأمن والأمان العلمى والاجتماعى وتوفر لهم كل ما يضمن لهم الاستمرار فى التفوق..
اعتقد أن فلسفة وأهداف الوقف تتضمن هذا الاتجاه وتدعمه وإذا لم يكن هناك وقف صريح لذلك فلننشئ وقفا خاصا .. فيجب السعى نحو عمل مؤسسى نستفيد فيه بتلك الروح الداعمة والمحبة لأهل القرآن والدفع بهم إلى الأمام والتشجيع على خلق أجيال جديدة أكثر إبداعا وتألقا..
والله المستعان..









