فى زمنٍ تتسارع فيه وسائل الاتصال، وتتعاظم جهود الدولة للتحول الرقمى يثور سؤال مهم:
لماذا لا يكون لكل مؤسسة صحفية رقم مختصر يتيح للناس التواصل معهم سريعًا ويتجاوب معهم؟ سؤال لا يحمل ترفًا تنظيريًا، بل ينطلق من حاجة إنسانية ومجتمعية ملحّة؛ فذلك الرقم لا يخفف فقط متاعب كثيرة عن أجهزة الدولة، ولايقلل من دور منظومة الشكاوى الحكومية أو يكون بديلًا عنها، بل يدعمها ويكمّلها. فالتواصل الحيّ بين المواطن والحكومة، عبر وسيط إعلامى مهني، يترك أثرًا طيبًا فى تلك العلاقة؛ إذ يفرح المواطن ويطمئن إذا وجد صدى لشكواه داخل الدوائر الرسمية، فتتشكل حالة رضا عامة، هى أساس الاستقرار والثقة والمصداقية للحكومة والصحف معًا.
هذا المعنى ليس افتراضًا ذهنيًا، بل تجربة عشتها بنفسى وشاركت فى صناعتها ونجاحها مع بدايات الثورة الرقمية. يومها طلب منى الكاتب الصحفى الكبير الأستاذ سمير رجب، رئيس مجلس إدارة دار التحرير للطبع والنشر ورئيس تحرير جريدة «الجمهورية» الأسبق، التعاقد على رقم مختصر كخط ساخن للجريدة، أُطلق عليه اسم «139 جمهورية». كان مشروعًا طموحًا، وقسمًا صحفيًّا متميزًا وُلد من رحم فكرة جريئة، تأسس على يدى بعد اتفاق واضح مع الأستاذ سمير رجب، الذى طلب بدوره من الدكتور أحمد نظيف، وزير الاتصالات آنذاك، خلال اجتماع ضمّنا ثلاثتنا، أن يتدخل لإقناعى بقبول الإشراف على هذا القسم الوليد.
ترددت فى البداية، لا تهربًا من المسئولية، بل إدراكًا لثقلها، خاصة أننى كنت أقوم فى الوقت نفسه بعملى نائبًا لرئيس تحرير الجمهورية، ومسئولًا عن ملفات عديدة، من بينها النقل والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات. غير أننى وافقت فى النهاية، واضعًا شرطين لا تنازل عنهما: أن أختار بنفسى فريق العمل، وأن يتم التعامل مع القسم مباشرة عبر الديسك، دون عوائق بيروقراطية. وقد منحنى الأستاذ سمير رجب صلاحيات واسعة أسهمت فى إنجاح التجربة، بمساندة الزميلة القديرة جمالات يونس، شعلة النشاط فى هذا القسم.
فتح «139 جمهورية» أبواب الرزق والتعيين لأكثر من مئة صحفى وإداري، صار بعضهم لاحقًا ملء السمع والبصر فى بلاط صاحبة الجلالة. خرجت من هذا القسم كوادر انتقلت إلى الديسك المركزي، وتولى بعضهم مهام إدارة تحرير عدد للجريدة، من بينهم الزملاء أحمد العطار، ومعه أحمد خيري، وأحمد هاشم، وفتحى أبوالحمد، ومحمد زين، وغيرهم. كانت تلك تجربة تدريب عملى نادرة، صقلت المواهب، وخلقت صحفيين يعرفون كيف يحوّلون شكوى بسيطة إلى خبر، أو تحقيق، أو حملة صحفية مؤثرة.
أحدث «139 جمهورية» دويًّا قويًا فى حينه، وكان أسرع وصولًا إلى الناس من الحكومة نفسها. صار حلقة وصل حقيقية بين المواطن والمسئول، وأفرزت الشكاوى التى تلقاها موضوعات وتحقيقات صحفية متميزة، لامست واقع الناس، واهتمت بقضاياهم وهمومهم ومتاعبهم، حتى أصبح بحق صوتًا لهم؛ يعرض مطالبهم على المسئولين، ويتلقى استجابات فورية تريح كاهلهم وتغيثهم. لم يكن الهاتف مجرد وسيلة تواصل، بل نافذة أمل، وجسر ثقة، وبوصلة لقياس نبض الشارع الحقيقي.
ولا أدري، حتى اليوم، لماذا خفت ضوء هذه التجربة بعد أحداث 2011، ولا أتصور، مع كل هذه الطفرة الرقمية الهائلة، ألا تحتوى كل مؤسسة صحفية على مثل هذا الرقم المميز. فوجوده لا ينافس الخطوط الساخنة لأجهزة الدولة، بل يدعم تلك الخطوط ومعها منظومة الشكاوى الحكومية، ويمنح صانع القرار قراءة أصدق لما يجرى على الأرض، بعيدًا عن التقارير الروتينية.
لقد كان «139 جمهورية» شاهدًا على أن الصحافة، حين تقترب من الناس، وتؤمن بأن الهاتف قد يكون أداة عدالة، تستطيع أن تسبق زمنها. تجربة أثبتت أن الإعلام ليس ناقلًا للأحداث فحسب، بل شريك فى الحل، ووسيط رحيم بين المواطن ومؤسسات الدولة. ويبقى السؤال مفتوحًا، ومؤلمًا فى آن: هل يأتى يوم يعود فيه هذا الرنين، ليذكّرنا بأن أقصر الطرق إلى الثقة يبدأ أحيانًا برقم صغير؟
لم يتوقف الدور عند حدود الصحافة الخدمية، بل تمدد إلى الفعل الإنسانى والاجتماعي، حين تطورت التجربة لتشمل مبادرات خيرية موثقة، ساهمت فى علاج مرضي، وتزويج يتامي، وتفريج كرب غارمين. تعاظمت الثقة إلى درجة أن مؤسسات ورجال أعمال ووزارات ساهموا فى دعم هذه الجهود، إدراكًا منهم أن الصحافة، حين تخلص للناس، تصبح قوة بناء لا أداة نقد أو تنوير فقط.
كان الرقم المختصر، بثلاثة أرقام، سرًّا من أسرار النجاح؛ سهل الحفظ، سريع التداول، قريبًا من الذاكرة الشعبية. ومعه تعمق الدور المجتمعى للجريدة، واتسع انتشارها، وتحوّل الخط الساخن إلى علامة فارقة فى تاريخ الصحافة المصرية والعربية. غير أن هذه التجربة، التى حافظت على تألقها لسنوات، خفت ضوؤها بعد أحداث 2011، وتوقف «الرنين» الذى كان يحمل نبض الشارع.
اليوم، ومع طفرة رقمية غير مسبوقة، يبدو غياب مثل هذه المبادرات أكثر إيلامًا. فقد خسر المواطن قناة قريبة، وخسرت الصحافة دورًا جماهيريًا أصيلًا، وخسرت الدولة أداة ذكية لاستشعار الرأى العام الحقيقي. ويبقى «139 جمهورية» شاهدًا على أن الصحافة، حين تنحاز للناس وتؤمن بأن الهاتف قد يكون بوابة للعدل، تستطيع أن تسبق زمنها.. وأن تترك سؤالًا مفتوحًا: هل يعود يومًا هذا الصوت، ليذكّرنا بأن أقصر الطرق إلى الثقة يبدأ أحيانًا بثلاثة أرقام قادرة على صنع التاريخ المتميز؟









