اصطحبت صديقاً عزيزاً لعرض حالته على أحد أساتذة الطب فى عيادته.. وقام زميل لى بحجز الموعد والتوصية لديه. وبالفعل، استقبلنا الطبيب استقبالاً حارًا، واستمع بانصات، وسأل وحاور، تماماً كما يقول الكتاب عن النموذج المثالى للعلاقة بين الطبيب والمريض. و«عند النطق بالحكم»، أفاض وأسهب فى شرح عدم تفضيله للعلاج الإشعاعى لمثل هذه الحالة، وعدّد الكثير من مضاعفاته ومساوئه، ثم وصف علاجاً دوائياً وطلب العودة بعد ثلاثة أشهر.
فى تقديرى الشخصي، كان أداء الطبيب ممتازاً، مريحاً ومقنعاً. لكنى دهشت أنه لم يدوّن حرفاً واحداً مما سمع أو قيل أو قال، لا ملاحظات، ولا تشخيصاً مكتوباً، ولا خطة علاج موثقة، وكأن ما دار بيننا حديث عابر.. وخلاص
وبعد ثلاثة أشهر، راجعنا نفس الطبيب. وفجأة، وجدنا أنفسنا أمام إنسان مختلف تماماً، رغم أنه الشخص ذاته. فلقد اكتفى بالسلام وهو جالس فى مقعده، وكان أول سؤال له: «عرفونى بنفسكم». قدم له صديقى الروشتة السابقة والتحليل الجديد الذى أظهر تحسناً كبيراً للغاية، فاطلع عليهما سريعاً، ثم قال ببرود: «يجب الآن أن نحولك للعلاج الاشعاعي». صعق صديقى وكاد يغمى عليه، وأمسكت بيده وغادرنا العيادة سريعا فلم يكن هناك ما يمكن أن يقال.
هذا المشهد له دلالات أعمق من مجرد واقعة فردية؛ فهو يعكس خللاً فى مفهوم الممارسة الطبية ذاتها. بداية لابد من القول إننا قادرون على بلوغ أعلى درجات الحرفية والإنسانية حين نريد، لكننا – للأسف – لانتعامل مع الأمور بالجدية التى تستحقها صحة الإنسان وحياته. فمن أولى بديهيات العمل الطبى وجود سجل طبى تدوّن فيه كل تفاصيل الحالة، من تاريخ المرض والفحوصات إلى التشخيص وخطة العلاج والمتابعة، سجل يرافق المريض ما دام على قيد الحياة، وينطبق ذلك على جميع المنشآت الطبية، الحكومية الخاصة على السواء ومما لا شك فيه أن التطور السريع فى الخدمات الرقمية قادر على تقديم حلول كثيرة للتسجيل الطبى الفاعل. أما عن سبب التغير المفاجئ فى رأى الطبيب تجاه العلاج الاشعاعي، فذلك يظل فى دائرة الغموض، ولا يعلم الغيب إلا الله.
العلاج دون سجلات طبية يشبه وجبات «التيك أواي»؛ سريعة وسهلة ومغرية، لكنها تفتقر إلى القيمة، وقد تضر أكثر مما تنفع..
إن لمنظومة العلاج والتداوى أسساً لا يجوز تجاوزها: التوثيق الدقيق، الاستمرارية، وضوح القرار الطبي، واحترام كرامة المريض وحقه فى الفهم والمعرفة. فالطب ليس وصفة تسلم على عجل، ولا قراراً يتبدل بلا تفسير، بل عقد أخلاقى وإنسانى يقوم على الثقة والمسئولية.








