أكد فضيلة الأستاذ الدكتور نظير محمد عياد، مفتي الجمهورية ورئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، أن عالمنا المعاصر يمر بلحظة إنسانية فارقة تتشابك فيها التحديات، وتتزايد فيها الحاجة إلى استعادة الخطاب الرشيد القادر على تهدئة النفوس، وجمع الكلمة، وبناء مساحات آمنة للتفاهم بين البشر؛ مشدداً على أن مسؤولية الكلمة الصادقة والوعي المستنير باتت ضرورة أخلاقية وحضارية لا تحتمل التأجيل، في ظل تصاعد الأزمات وآثار التطرف وسوء توظيف الاختلاف.
جاء ذلك خلال كلمة فضيلته في مؤتمر “معاً لمواجهة خطاب الكراهية”، الذي ينعقد بالتعاون بين دار الإفتاء المصرية، والهيئة القبطية الإنجيلية، والكنيسة القبطية الأرثوذكسية، ومركز الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمي للحوار.
وأوضح مفتي الجمهورية أن الاجتماع في هذا المؤتمر لا يُعد حدثاً عابراً أو لقاءً بروتوكولياً، بل هو رسالة أمل صادقة تؤكد أن ما يجمع البشر أعمق وأبقى مما قد يفرقهم، وأن القيم الكبرى التي قامت عليها الرسالات الإلهية قادرة —إذا أُحسن استحضارها— على بناء جسور الثقة، وترسيخ آفاق العيش المشترك؛ مؤكداً أن الدين في جوهره لم يكن يوماً سبباً للصراع، بل نداءً للضمير، ودعوة للحياة، ورسالة لإشاعة الرحمة والسلام بين الناس جميعاً.
وأشار فضيلته إلى أن الحديث عن الفكر الديني في العالم المعاصر لم يعد نظرياً معزولاً عن واقع الناس، بل أصبح جزءاً من نقاش عام واسع تتقاطع فيه الرؤى وتتباين التصورات، مما أفرز مشهداً فكرياً مضطرباً تتصارع فيه قراءات مختلفة للنصوص والتراث؛ فمنها من يوظف النصوص توظيفاً مغلقاً لتبرير الإقصاء والعنف، ومنها من يتعامل مع التراث تعاملاً انتقائياً تفكيكياً يقدم الدين بوصفه سبباً للكراهية، وفي كلتا الحالتين تتعرض حقيقة الدين للتشويه ويُغفل مقصده الإنساني الأسمى.
وبيّن فضيلته أن مواجهة خطاب الكراهية لا تعني مصادرة الاختلاف، فتلك سنة إنسانية، وإنما المقصود هو كل خطاب يتجاوز حدود الاختلاف المشروع إلى الإهانة والتحقير ونزع الإنسانية عن الآخر؛ مشدداً على أن خطورة خطاب الكراهية تكمن في آثاره التراكمية النفسية والثقافية التي تعيد إنتاج الانقسام داخل المجتمع، وتضعف الثقة بين مكوناته. كما أكد أن إصلاح الخطاب الديني والفكري ليس ترفاً، بل ضرورة لحماية السلم المجتمعي وصيانة وحدة النسيج الوطني.
وذكر المفتي أن دار الإفتاء المصرية تؤمن بأن مواجهة الكراهية لا يمكن أن تبقى حبيسة ردود الأفعال، بل تحتاج إلى مشروع إنساني متكامل تتحول فيه الجهود من الإدانة إلى البناء؛ مضيفاً أن مسؤولية التصدي للكراهية هي مسؤولية تكاملية تشترك فيها منظومات الفكر والتعليم والإعلام والتشريع، من خلال مقاربة شاملة توازن بين حرية التعبير وواجب احترام الكرامة الإنسانية.
ولفت فضيلته إلى أن التعاون بين دار الإفتاء والكنائس المصرية يمثل أنموذجاً مضيئاً للتلاقي الإنساني، مؤكداً أن التنوع الديني والثقافي حقيقة كونية ينبغي إدارتها بالحوار وصونها بالعدل. وفي ختام كلمته، شدد على مرتكزات أساسية، في مقدمتها ترسيخ الوعي المجتمعي، والتعامل مع التطرف كخطر مركب، والاستفادة من الحضور الرقمي الرشيد، وترسيخ مبدأ كرامة الإنسان وحقه في الاعتقاد والعبادة دون خوف.
من جانبه، أكد الأنبا ميخائيل، أسقف حلوان والمعصرة و15 مايو، وممثل قداسة البابا تواضروس الثاني، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، أن مبدأ “المحبة لا تسقط أبداً” يشكل ركيزة أصيلة في رؤية الكنيسة، ويُعد المدخل الحقيقي لبناء الإنسان وإرساء الاستقرار المجتمعي.
وأضاف الأنبا ميخائيل، خلال مشاركته في المؤتمر، أن العالم يعيش مفارقة واضحة؛ حيث يتسارع التقدم التكنولوجي بينما تتزايد مظاهر الكراهية، لافتاً إلى أن بعض المفاهيم، وعلى رأسها “الحرية”، يجري توظيفها بشكل خاطئ لتبرير سلوكيات مدمرة. وأكد أن هذا الواقع يستوجب مراجعة شاملة للمنظومة القيمية، وإعادة الاعتبار للبعد الأخلاقي في الخطاب العام.
وأوضح ممثل قداسة البابا أن الإنسان لم يُخلق ليكون أداة صراع، بل ليحمل رسالة محبة، مشدداً على أن البناء الحقيقي لا يتحقق إلا بقبول الآخر بعيداً عن منطق الإقصاء. واعتبر أن المؤتمر خطوة جادة نحو إعادة صياغة الوعي، داعياً المؤسسات التعليمية والثقافية لصياغة برامج عملية تغرس قيم التسامح في نفوس النشء، بدلاً من الاكتفاء بالشعارات النظرية.
وشدد أسقف حلوان والمعصرة على أن الأسرة المصرية تمثل “خط الدفاع الأول” في مواجهة الكراهية، باعتبارها البيئة الأولى لتشكيل الوعي الإنساني، داعياً إلى دعمها بمنظومة قيم تُعلي من شأن الرحمة والتماسك. واختتم كلمته بالتعبير عن اعتزازه بمصر وتقديره لدورها التاريخي، معرباً عن أمله في أن تسهم مخرجات المؤتمر في دعم الاستقرار المجتمعي، قائلاً: «تحيا مصر، وتبقى أرضاً للمحبة والسلام».











