بقلم : حلمى النمنم
حققت الصين نجاحًا هائلاً فى مجال التنمية المستدامة، وقامت بقفزات ضخمة فى مجال البرمجيات، وهى اليوم منافس قوى للولايات المتحدة، حتى فى الصناعات العسكرية والتسليح، معروف الآن، لدى المهتمين بالشأن العسكرى والحربي، فضلاً عن غير المتخصصين، أن لدى الصين منظومة تسليح حديثة، لا تقوم على التدمير بالنيران، بل بوسائل أخرى رقمية، يمكنها أن تعطل الخصم، وفى مجال الطيران مثلاً، نُشر مؤخراً أن الصين لديها طائرة حربية، تنافس الطائرة الأمريكية «إف/35»، أيقونة الطيران الحربى الأمريكى، يقال إن الطائرة الصينية لديها ميزات أفضل من تلك التى لدى منافستها الأمريكية.
النجاح الصينى فى جانب منه يمكن أن يفوق النجاح الأمريكى، فقد اعتمد الأمريكيون فى البداية على ثروات ضخمة كانت متاحة لديهم، وعلى العبيد السود الذين تم اختطافهم من إفريقيا، فكانوا قوةً عاملة مجانية تماما وبلا أى حقوق، وهذا عامل استثنائى جداً، ولم يكن متاحًا للصين ولا لغيرها.
التنمية الصينية قامت على جهود وسواعد الصينيين أنفسهم، ونجحت التجربة فى إنقاذ أكثر من مليار وأربعمائة مليون إنسان، يشكلون أكثر من 17 ٪ من سكان الكرة الأرضية، من براثن الفقر المدقع والبطالة إلى حياة رغدة وآمنة، بمستويات دخل سنوية مرتفعة بالمعايير العالمية والدولية.
ارتفع الدخل القومي، بنسب عالية جدًا وارتفع كذلك ما لديها من احتياطيات النقد الأجنبي، والحق أنه تضاعفت عدة مرات، وحدث ذلك فى وقت قياسى جداً، لم يتجاوز العشرين عامًا، بدأ تحديداً سنة 1987.
الإدارة الأمريكية الحالية حاولت -مؤخراً- خوض تحدٍ اقتصاديٍ مع الصين، الأخيرة ردت بالمثل، فى النهاية تراجع الرئيس دونالد ترامب، وهناك لقاء مرتقب له مع الرئيس الصيني.
الرئيس ترامب لاحظ ان كثيراً من البضائع الصينية تملأ المحلات والمتاجر الأمريكية، ليس ذلك فقط بل إنها المفضلة لدى المواطن الأمريكى لجودتها وأسعارها المعقولة، فقام بفرض جمارك عالية عليها ليرتفع السعر فيحجم عنها المستهلك الأمريكى فحدث العكس وضج المواطن.
خارج الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية، شعرت الولايات المتحدة وفرنسا كذلك بالانزعاج الشديد من التواجد الصينى الكثيف فى افريقيا.
لم تدخل الصين إلى الدول الافريقية بالقواعد العسكرية ولا باستهداف موارد هذه الدول، باختصار لم تعتمد على قواعد وخطط الاستعمار، القديم منه أو الجديد، الذى يهدف إلى النهب والسطو، إن لم يكن الاحتلال، حتى لو لم يحمل ذلك المسمي، دخلت الصين بمنطق التنمية والمساعدة الاقتصادية المتبادلة، فى بعض الدول قامت بمشاريع مثل إقامة مبنى «هدية» للدولة أو تشييد جسر، وفُتِحت لها الأبواب والأسواق، لا يفرضون على تلك المجتمعات أنماطاً استهلاكية بعينها، بل سلع تناسب المجتمعات وفق احتياجات المواطن وطبقاً لقدراته الشرائية، وعندنا هنا فى مصر، نتذكر أسعار السيارات والأجهزة الصينية حين جاءت إلينا فى التسعينيات، مقارنة بنظيراتها التى استوردت من اليابان والمانيا وفرنسا.
>>>>
كثيرون تحدثوا عن التجربة الصينية أو ما أطلق عليه البعض المعجزة الصينية، هذا التنين الذى تعرض للإهانة فى القرن التاسع عشر من بريطانيا، عبر حرب الأفيون، حاولت بريطانيا أن تفرض عليهم تعاطى الأفيون والمخدرات بالقوة، وهو نفس البلد الذى تعرض لمجاعة مطلع الستينيات، فقد فيها عشرات الملايين من شدة الجوع، بكل هذا الميراث من الألم انطلقت الصين لتحقق ما يعد معجزة تنموية بحق.
الانطلاقة كان فيها الروح الوطنية والقومية، الصين بلد عريق فى الحضارة والثقافة الإنسانية، لكنه لأسباب عدة تعرض لفترات اضمحلال داخلي، وقامت الثورة الصينية الكبرى سنة 1949، بقيادة الزعيم ماو تسى تونج، وتعرضت الصين لضغوط كبيرة ومروراً بفترة قاسية، لكنهم بعد وفاة الزعيم ماو ورحيل شو آين لاي، دخلوا عملية إصلاح سياسى واقتصادى ضخمة بكل المقاييس.
هذا النجاح يسير بمعدلات جيدة ومنتظمة، هناك حفاظ وحرص عليه بتجنب الخوض فى مغامرات عسكرية خارجية أو مشاريع سياسية، على حساب التنمية والازدهار الاقتصادي.
هناك دلائل عدة، حول العالم، على هذا النجاح، لاحظ انتشار تعلم اللغة الصينية حول العالم، ليس فى افريقيا وآسيا فقط، بل فى أوروبا والولايات المتحدة، لاحظ كذلك ازدياد أعداد السائحين الصينيين فى العديد من دول العالم، مصر نموذجاً.
قبل عدة شهور تكشفت فضيحة كبري، بيوت الأزياء العالمية فى أوروبا والولايات المتحدة، كانت تشترى المنتجات الصينية وتضع عليها شارتها هي، بالطبع تشتريها بالأسعار الصينية ثم تبيعها بالأسعار الباهظة لديها.
>>>>
أهم ما فى تلك التجربة ويُعبر عليه كثيرون، قضية الديمقراطية، ومعظم المنظرين هنا وفى مناطق مختلفة من العالم، أصحاب الرؤى الرأسمالية يصرون على أنه لا تنمية ممكنة ولا ازدهار اقتصادي، دون ديمقراطية حقيقية وكاملة.. صحافة حرة.. تعددية حزبية.. حاكم يأتى ويمضى كل أربع سنوات، حبذا لو مضى إلى السجن كما هو الحال فى بعض بلاد آسيا وأمريكا اللاتينية، انتخابات نيابية تنافسية وغير ذلك كثير.
غير أن الصين إلى اليوم محكومة بالحزب الشيوعى الصيني، حزب واحد. بكل ما يعنيه ذلك سياسياً وثقافياً، وفق التعبير السائد «زيرو ديمقراطية»، رغم ذلك حققت الصين معدلات تنمية، جاوزت لسنوات معدل 7 %.
نجحت الصين فى أن تزاوج بين حكم الحزب الواحد، حزب يتبنى الأفكار الماركسية «التطبيق الصيني» وفى نفس الوقت يستعمل الأدوات الرأسمالية واقتصاد السوق فى مجال التنمية والإنتاج، وهذا البُعد يتم تجاهله ولايدرى بشكلٍ كاف.
الحق كان المفكر الراحل د.أنور عبدالملك منتبها، منذ وقت مبكر لهذه التجربة وبشر بها فى كتابه المهم «ريح الشرق»، كما نظر لها الراحل د.سمير أمين.
احترمت التجربة كذلك الخصوصية الصينية فى مجال التراث الثقافى وعادات المجتمع، خلطة خاصة جداً بين ما هو سياسى وثقافى واقتصادي.
هذه التجربة تسقط الكثير من المقولات حول الربط الحتمى بين الديمقراطية النيابية، وفق المعايير الأمريكية فى المقام الأول وتحقيق التنمية.
محاضرات عديدة ألقيت ومواعظ قدمت فى أنه لن ينجز شيء فى أى بلدٍ نحو التنمية الاقتصادية دون بناء الديمقراطية، قروض صندوق النقد لا تمنح دون معاينة للحالة الديمقراطية، أبواب الغرب لن تفتح أمام أى بلد للتعاون فى كافة المجالات، خاصة ما يرتبط بالشأن الاقتصادى والعلمى دون الدخول إلى دنيا الديمقراطية والتعدد الحزبي، لكن الصين تقدم النموذج الآخر.
لكن ليس هناك ارتباط شرطى بين بناءً التنمية الاقتصادية وانعدام الديمقراطية أو نظام الحزب الواحد، ذلك أن هناك نماذج أخرى نجحت اقتصادياً فى ظل الديمقراطية.
فى النهاية الربط الحتمى بين تحقيق التنمية المستدامة والشاملة من جانب الديمقراطية حضورا أو غيابا يجب أن يراجع.
الديمقراطية نظام واختيار سياسى قد تتحقق معه التنمية الاقتصادية وقد لا تتحقق، دول عديدة لديها أنظمة ديمقراطية ولم تحقق إنجازات فى مجال التنمية المستدامة.
جنوب افريقيا حققت تقدمًا اقتصادياً وعلمياً كبيرًا فى ظل نظام الفصل العنصرى البغيض وناضل الأفارقة بقيادة نيلسون مانديلا حتى سقوط الفصل العنصرى وبناء ديمقراطية حقيقية وحافظوا كذلك على التنمية، والهند لديها حالة ديمقراطية، رغم التشدد والتطرف الديني، ولديها كذلك نموذج تنموى يشار إليه، ومعظم الدول «النمور الآسيوية» حققت قفزات تنموية فى ظل تراجع أو غياب الديموقراطية، والصين «قارة « محكومة بالحزب الواحد وهو حزب شيوعى واستطاعت تحقيق «معجزة تنموية»، نجاح أو فشل التنمية يرتبط بأسباب وعوامل كثيرة.









