فى خضم أسبوع حافل بالمتغيرات الدولية المتسارعة، وضع مرصد الأزهر لمكافحة التطرف، يده على الجرح العالمى النازف، كاشفًا عن مشهد دولى يضج بالتناقضات الصارخة، فبينما تغرق المؤسسات الدولية فى حسابات سياسية معقدة تعجز عن حماية المدنيين فى غزة، وتتحول فيه القوانين فى الغرب إلى أدوات للوصم والضغط على الأقليات، تبرز النماذج الفردية لتعيد تصحيح البوصلة الأخلاقية للعالم، وفق تفاصيل دقيقة لمشهد معقد؛ حيث تتداخل الضغوط العسكرية بالمآسى الإنسانية فى الأراضى الفلسطينية المحتلة، وتُستخدم «فزاعة» الإرهاب كأداة انتخابية وسياسية فى الولايات المتحدة وأوروبا، بينما يواجه المسلمون حول العالم تحديات وجودية تتأرجح بين سياسات الإقصاء ومحاولات الاحتواء. وفى قلب هذا المشهد القاتم، يأتى الخبر اليقين من أستراليا، حيث سطر مواطن مسلم ملحمة بطولية أخرست أصوات الكراهية، وقدمت درسًا عمليًا فى التسامح لم يستطع حتى رئيس وزراء الاحتلال تزييفه.
القضية الفلسطينية
مَرَّ أكثر من شهرين على اتفاق الهدنة، ومع ذلك، لاتزال الصورة العامة تتسم بالهشاشة الشديدة والتوتر المستمر، وسط واقع ميدانى معقد، فبين فترات الهدوء النسبى واختراقات الاحتلال المتكررة، تتضح محدودية التقدم الحقيقى على الأرض، فالتحدى الأكبر يكمن الآن فى عملية الموازنة الدقيقة بين الضغوط الإقليمية والدولية الرامية لإنجاز المرحلة التالية من الاتفاق، وبين الواقع الفعلى الذى يشير إلى استعادة حركة حماس لسيطرتها الإدارية على القطاع، فى مقابل القيود العسكرية والسياسية التى تكبل الكيان الصهيوني.
أما فى الضفة الغربية، فقد حدثت تحولات خطيرة تتجاوز العمل العسكرى المباشر إلى ما يمكن تسميته بـ«استراتيجية السيادة الرمزية»، حيث يواصل الكيان الصهيونى فرض سيطرة شاملة لتعزيز نفوذه، وقد تكللت هذه الجهود بتحركات سياسية فى واشنطن قادها رئيس مجلس السامرة ورئيس الكنيست، أسفرت عن اعتماد أكثر من 20 ولاية أمريكية لمصطلح «يهودا والسامرة» بدلًا من الضفة الغربية، وهذه الخطوة ليست مجرد تغيير فى التسميات، بل هى تمهيد سياسى خطير لتقويض أى أفق مستقبلى لإقامة دولة فلسطينية، وتعكس تكاملًا مدروسًا بين الخطط الميدانية فى غزة والمكاسب الرمزية فى الضفة.
وعلى صعيد المعاناة الإنسانية للأسري، تحولت السجون الإسرائيلية إلى مسرح لسياسة «العقاب الجماعي» الممنهج، وتشير الإحصائيات المفزعة إلى استشهاد 112 أسيرًا فلسطينيًا منذ تولى الوزير المتطرف إيتمار بن غفير حقيبة الأمن القومي، بينهم 98 شهيدًا ارتقوا منذ بدء العدوان الأخير على غزة، وهذه الأرقام تعكس استراتيجية متعمدة تعتمد على التجويع والضغط النفسي، بالتوازى مع تحول «خطاب الإعدام» داخل الكيان الصهيونى إلى أيديولوجيا رسمية تدعو لتقديس الموت وتطبيع الانتهاكات ضد الفلسطينيين.
وفى غزة، تتفاقم المأساة بدخول عامل الكوارث الطبيعية على خط الأزمة، حيث يحذر خبراء الأرصاد من تداعيات عاصفة «بايرن» على المخيمات التى دمرتها الحرب، مما يكشف عن ضعف كارثى فى البنية التحتية وعجز تام عن مواجهة الكوارث، فتراكم هذه الكوارث من حرب، وحصار، وتشريد، وانهيار لخدمات المياه والصرف الصحى يصنع بيئة متفجرة ويضع أهالى القطاع أمام خطر كارثة واسعة النطاق، مما يضيف بعدًا جديدًا للضغط على كافة الأطراف.
ورغم قتامة المشهد، هناك بصيص أمل يتمثل فى تصاعد التضامن الدولي، وتحديدًا فى أمريكا اللاتينية التى شهدت نشاطًا ملحوظًا، بدءًا من رفع العلم الفلسطينى فى الأرجنتين وصولًا إلى مشاريع قوانين فى فنزويلا تدعم السيادة الفلسطينية، كما شهدت المكسيك وإسبانيا حراكًا مجتمعيًا وسياسيًا يعكس استثمار القضايا الإنسانية فى الحسابات السياسية المحلية، مما يؤكد أن القضية الفلسطينية باتت أزمة متعددة الأبعاد، تجمع بين الميدانى والسياسي، والرمزى والإنساني.
خارطة التطرف فى العالم
الوقائع الأخيرة فى الولايات المتحدة وأوروبا وباكستان تشير إلى تحول نوعى فى مفهوم الإرهاب؛ إذ لم يعد مجرد فعل عنيف منفصل، بل أصبح أداة سياسية وإعلامية فعالة لإعادة رسم الحدود بين «الأمن» و»الهوية».
ففى الولايات المتحدة، يتجلى هذا التوظيف السياسى للصدمات الأمنية فى أعقاب حادث إطلاق النار فى واشنطن الذى أودى بحياة مجندة فى الحرس الوطني، وبدلًا من التعامل مع الحادث فى إطاره الجنائي، استغله الرئيس دونالد ترامب لإطلاق موجة جديدة من الخطاب المعادى للمهاجرين، موسعًا دائرة الاتهام لتشمل الجالية الصومالية والنائبة إلهان عمر دون تقديم أى أدلة مؤكدة، رابطًا إياهم بالإرهاب الرمزي. هذا التصعيد تزامن مع عمليات ترحيل مكثفة فى ولاية مينيسوتا، وهو ما قوبل برفض من السلطات المحلية.
وفى القارة الأوروبية، ساهم الإعلام السياسى فى خلق بيئات «سامة» تستهدف الأقليات العرقية والدينية، كما ظهر جليًا فى بريطانيا عبر تصريحات نايجل فراج وتصاعد نقد حزب الإصلاح، وفى فرنسا، أثار الجدل حول زيارة البابا وتقارير إعلامية تربط الإسلام بجرائم منظمة نقاشا حادة حول «التعميم الديني» وأثره المدمر على الهوية والأمن الاجتماعي، وهذه التوترات تظهر حجم التحدى فى حماية الأقليات الدينية مع ضمان حرية التعبير، وإعادة تعريف الإرهاب كخطاب كراهية وليس فقط كعنف مادي.
وعلى صعيد المكافحة الرقمية، تتخذ الدول خطوات متسارعة، مثل قانون ولاية «هيسن» فى ألمانيا الذى منح الاستخبارات صلاحيات تفتيش إلكترونى موسعة لمراقبة بيانات القاصرين المشتبه فى تطرفهم، إلا أن خبراء المرصد يؤكدون أن هذه الإجراءات الأمنية وحدها تظل قاصرة، وأن التعليم والتثقيف المجتمعى هما خط الدفاع الأول لتحصين الشباب.
أحوال المسلمين والاسلاموفوبيا وخطاب الكراهية
وفى صورة بانورامية لأوضاع المسلمين حول العالم، تتسم بالتقلبات الحادة والتناقض بين سياسات الإقصاء ومبادرات الاحتواء تتصاعد إجراءات التضييق والوصم السياسي، تبرز من قلب المجتمعات الإسلامية نماذج مشرفة تنسف كل سرديات الكراهية.
ولعل أبرز ما يسجله التاريخ فى هذه الفترة، تلك الملحمة الإنسانية التى شهدتها مدينة سيدنى الأسترالية، والتى أضاءت على نبل الروح البشرية وصدق التعاليم الإسلامية، وبطل هذه القصة هو المواطن المسلم «أحمد الأحمد» (43 عامًا)، وهو أب وتاجر بسيط، لا يملك أى خبرة قتالية، لكنه يملك قلبًا ينبض بقيم الإسلام الحنيف، ولم يتردد أحمد لحظة واحدة فى المخاطرة بحياته عندما رأى المحتفلون اليهود بعيد «الحانوكا» يتعرضون لخطر داهم جراء إطلاق نار إرهابي، وفى مشهد بطولى وثقته الكاميرات، تسلل أحمد وانقض بجرأة نادرة على أحد المسلحين، متمكنًا من انتزاع البندقية منه، فى تدخل حاسم منع وقوع مجزرة محققة، وهو العمل الذى أشاد به رئيس الوزراء الأسترالى بشدة، ولم تكن هذه البطولة مجانية، فقد دفع أحمد ثمنها من دمه، مصابًا برصاصتين فى كتفه ويده، ليثبت للعالم أجمع أن مبدأ «حماية النفس البشرية» فى الإسلام هو قيمة عليا تسمو فوق أى اعتبار دينى أو عرقي.
المفارقة الكبرى فى هذا الحدث تجلت فى محاولة التوظيف السياسى الرخيص من قبل رئيس وزراء الكيان الصهيونى بنيامين نتنياهو، الذى سارع فور وقوع الحادث إلى الإعلان بأن «بطلًا يهوديًا» هو من سيطر على المهاجم، فى محاولة بائسة لسرقة البطولة وتأطيرها طائفيًا. لكن وسائل الإعلام الأسترالية كانت بالمرصاد، وكشفت الحقيقة سريعًا، مؤكدة أن البطل هو «أحمد الأحمد» المسلم، مما فجر موجة انتقادات عالمية لنتنياهو، وفضح محاولات تزييف الحقائق. إن قصة أحمد الأحمد ليست مجرد حدث عابر، بل هى رسالة سلام مدوية ترد عمليًا على نتنياهو وكل مروجى الإسلاموفوبيا، وتؤكد أن المسلم هو حارس للسلام، يسعى لحماية الضعيف بغض النظر عن هويته، داحضًا بذلك آلاف التقارير المغرضة التى تحاول ربط الإسلام بالإرهاب.
وهذه البطولة تأتى فى وقت يتعرض فيه المسلمون لضغوط ممنهجة.
وعلى النقيض، تبرز نماذج إيجابية للتعايش، مثل ما شهدته سريلانكا عقب إعصار «دِتْواه»، حيث أطلقت الحكومة مشروعًا لترميم 157 مسجدًا و379 مزارًا بوذيًا متضررًا، فى رسالة قوية حول أهمية حماية دور العبادة لتعزيز التعافى المجتمعي، وفى بريطانيا، اعتمدت شرطة ليسترشير «الحجاب الأزرق» سهل الاستخدام لحماية الشرطيات المسلمات أثناء أداء عملهن، مواءمة بين السلامة المهنية والحرية الدينية، كما شهدت فرنسا افتتاح مدافن جديدة للمسلمين فى أورليان، رغم استمرار الجدل السياسى حول قضايا الحجاب والهجرة.
وفى المقابل، يرصد المرصد تصاعدًا فى «الإسلاموفوبيا الرقمية» فى إسبانيا، حيث اعتقلت شرطة قطلونية شابًا حوّل حساباته لمنصة تحريض ضد المسلمين وقام بحرق الحجاب، مستخدمًا خطاب «حماية الهوية الإسبانية» فى ظاهرة يصفها المرصد بـ «ذئاب الكراهية المنفردة»كما تشهد الهند توترات طائفية وتهديدات بهدم مساجد، يقابلها بعض الإنصاف القضائى بوقف هدم مسجد سنجولى فى هماتشالبراديش وإنقاذ إمام مسجد سبعة ركاب هندوس فى ولاية آسام، ما يعكس التزامًا قضائيًا ومجتمعيًا بحماية حقوق الأقليات وتعزيز التعايش.
بالتأكيد أن الحل الأمثل لمواجهة هذا الواقع المعقد يكمن فى بناء مقاربات متوازنة، تحمى المجتمعات من التطرف، وتتصدى لخطاب الكراهية دون المساس بالقيم الإنسانية، مستشهدًا بالتجارب الإيجابية التى تعزز السلام الاجتماعى وتضمن تماسك النسيج المجتمعي.
ويبقى الحل السياسى المستدام والعدالة الناجزة هما الضمان الوحيد لاستقرار العالم وحماية حقوق المدنيين بعيدًا عن ازدواجية المعايير.









